لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ
عن الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ فَقَالَ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري:
وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ هَذَا الْإِطْلَاق مَعَ أَنَّ بَعْض الْأَزْمِنَة تَكُون فِي الشَّرّ دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا زَمَن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَهُوَ بَعْدَ زَمَن الْحَجَّاج بِيَسِيرٍ , وَقَدْ اِشْتَهَرَ الْخَبَر الَّذِي كَانَ فِي زَمَن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز , بَلْ لَوْ قِيلَ أَنَّ الشَّرّ اِضْمَحَلَّ فِي زَمَانه لَمَّا كَانَ بَعِيدًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُون شَرًّا مِنْ الزَّمَن الَّذِي قَبْلَهُ وَقَدْ حَمَلَهُ الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَلَى الْأَكْثَر الْأَغْلَب , فَسُئِلَ عَنْ وُجُود عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز بَعْدَ الْحَجَّاج فَقَالَ : لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ تَنْفِيس .
وَأَجَابَ بَعْضهمْ أَنَّ الْمُرَاد بِالتَّفْضِيلِ تَفْضِيل مَجْمُوع الْعَصْر عَلَى مَجْمُوع الْعَصْر فَإِنَّ عَصْر الْحَجَّاج كَانَ فِيهِ كَثِير مِنْ الصَّحَابَة فِي الْأَحْيَاء وَفِي عَصْر عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز اِنْقَرَضُوا , وَالزَّمَان الَّذِي فِيهِ الصَّحَابَة خَيْر مِنْ الزَّمَان الَّذِي بَعْدَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” خَيْر الْقُرُون قَرْنِي ” وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ , وَقَوْله ” أَصْحَابِي أَمَنَة لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ ” أَخْرَجَهُ مُسْلِم .
ثُمَّ وَجَدْت عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود التَّصْرِيح بِالْمُرَادِ وَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ , فَأَخْرَجَ يَعْقُوب بْن شَيْبَة مِنْ طَرِيق الْحَارِث بْن حَصِيرَة عَنْ زَيْد بْن وَهْب قَالَ ” سَمِعْت عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود يَقُول : لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ يَوْم إِلَّا وَهُوَ شَرّ مِنْ الْيَوْم الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ حَتَّى تَقُوم السَّاعَة , لَسْت أَعْنِي رَخَاء مِنْ الْعَيْش يُصِيبهُ وَلَا مَالًا يُفِيدُهُ وَلَكِنْ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ يَوْم وَإِلَّا وَهُوَ أَقَلّ عِلْمًا مِنْ الْيَوْم الَّذِي مَضَى قَبْلَهُ , فَإِذَا ذَهَبَ الْعُلَمَاء اِسْتَوَى النَّاس فَلَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْلَكُونَ ” وَمِنْ طَرِيق أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي الْأَحْوَص عَنْ اِبْن مَسْعُود إِلَى قَوْله ” شَرّ مِنْهُ ” قَالَ ” فَأَصَابَتْنَا سَنَة خِصْب فَقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ أَعْنِي إِنَّمَا أَعْنِي ذَهَاب الْعُلَمَاء ” وَمِنْ طَرِيق الشَّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوق عَنْهُ قَالَ ” لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَان إِلَّا وَهُوَ أَشَرّ مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ أَمَا إِنِّي لَا أَعْنِي أَمِيرًا خَيْرًا مِنْ أَمِير وَلَا عَامًا خَيْرًا مِنْ عَام وَلَكِنْ عُلَمَاؤُكُمْ وَفُقَهَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ ثُمَّ لَا تَجِدُونَ مِنْهُمْ خَلَفًا , وَيَجِيء قَوْم يُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ ” وَفِي لَفْظ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْه ” وَمَا ذَاكَ بِكَثْرَةِ الْأَمْطَار وَقِلَّتهَا وَلَكِنْ بِذَهَابِ الْعُلَمَاء , ثُمَّ يَحْدُث قَوْم يُفْتُونَ فِي الْأُمُور بِرَأْيِهِمْ فَيَثْلِمُونَ الْإِسْلَام وَيَهْدِمُونَهُ ” وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ الْأَوَّل مِنْ طَرِيق الشَّعْبِيّ بِلَفْظِ ” لَسْت أَعْنِي عَامًا أَخْصَب مِنْ عَام ” وَالْبَاقِي مِثْله وَزَادَ ” وَخِيَاركُمْ ” قَبْلَ قَوْله ” وَفُقَهَاؤُكُمْ ” وَاسْتَشْكَلُوا أَيْضًا زَمَان عِيسَى بْن مَرْيَم بَعْدَ زَمَان الدَّجَّال , وَأَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْمُرَاد الزَّمَان الَّذِي يَكُون بَعْدَ عِيسَى ؟ أَوْ الْمُرَاد جِنْس الزَّمَان الَّذِي فِيهِ الْأُمَرَاء , وَإِلَّا فَمَعْلُوم مِنْ الدِّين بِالضَّرُورَةِ أَنَّ زَمَان النَّبِيّ الْمَعْصُوم لَا شَرّ فِيهِ . قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْأَزْمِنَةِ مَا قَبْلَ وُجُود الْعَلَامَات الْعِظَام كَالدَّجَّالِ وَمَا بَعْدَهُ وَيَكُون الْمُرَاد بِالْأَزْمِنَةِ الْمُتَفَاضِلَة فِي الشَّرّ مِنْ زَمَن الْحَجَّاج فَمَا بَعْدَهُ إِلَى زَمَن الدَّجَّال , وَأَمَّا زَمَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَلَهُ حُكْم مُسْتَأْنَف وَاَللَّه أَعْلَم .
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْأَزْمِنَةِ الْمَذْكُورَة أَزْمِنَة الصَّحَابَة بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ فَيَخْتَصّ بِهِمْ , فَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يُقْصَد فِي الْخَبَر الْمَذْكُور , لَكِنَّ الصَّحَابِيّ فَهِمَ التَّعْمِيم فَلِذَلِكَ أَجَابَ مَنْ شَكَا إِلَيْهِ الْحَجَّاج بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ , وَهُمْ أَوْ جُلّهمْ مِنْ التَّابِعِينَ . وَاسْتَدَلَّ اِبْن حِبَّان فِي صَحِيحه بِأَنَّ حَدِيث أَنَس لَيْسَ عَلَى عُمُومه بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَة فِي الْمَهْدِيّ وَأَنَّهُ يَمْلَأ الْأَرْض عَدْلًا بَعْدَ أَنْ مُلِئَتْ جَوْرًا , ثُمَّ وَجَدْت عَنْ اِبْن مَسْعُود مَا يَصْلُح أَنْ يُفَسَّر بِهِ الْحَدِيث وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ بِسَنَدٍ حَسَن عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ ” لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَام إِلَّا وَهُوَ شَرّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ , أَمَا إِنِّي لَسْت أَعْنِي عَامًا ” .
هناك مَنْ يُسِيْءُ فَهْمَ هذا الحديثِ الشريفِ: ” لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ ” ويَصِلُ به الأمْرُ إلى اليأسِ والقُنُوطِ والقُعُودِ عن العَمَلِ. ولكنْ وكَمَا جاء في شَرْحِ الحديثِ، فلا أساسَ لهذا الفهمِ الخاطئِ. بلْ على العَكْسِ، فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول (مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ)، ونُذَكِّرُ أيضاً بحديثِ حُذَيفةَ الذي رواهُ مسلمٌ وجاء فيه أنَّ بعدَ الخيرِ شراً وأنَّ بعدَ الشرِّ خيراً. فَمِنْ جُمْلَةِ الأدلةِ الواردةِ في هذا الخصوصِ يُفْهَمُ بِأنَّ تاريخَ الإسلامِ بينَ مَدٍّ وجَزْرٍ، وغُرْبَةٍ وإيناسٍ، ونَصْرٍ وهزيمةٍ. ولا يُفْهَمُ بِحَالٍ من الأحوالِ اليأسُ والقنوطُ والقعودُ، فالمسلمُ لا يَعْرِفُ شَيئاً مِنْ هذا.