أزمة القوقاز بين مخالب الدبّ الروسي و غطرسة السياسة الأمريكية
لقد أصبح واضحاً لكلّ ذي بصيرةٍ أنّ الإدارة الأمريكية الحالية قد أصابها العمى و الغرور نتيجة لجشعها الاستعماري و محاولات فرض هيمنتها وسيطرتها على العالم ، فديدَنُها خلق الأزمات و إثارة المشاكل و إيجاد التوترات و إشعال الحروب ، بل إنها نفسها أصبحت تقع في هذه الأزمات و ترتدّ عليها المشاكل و تكتوي بنار هذه الحروب التي أشعلتها أو تسببت بها ، و صدق الله العظيم حيث يقول في كتابه العزيز { اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } سورة فاطر – آية 43 ، فكان باكورة أعمالها القذرة الغزو و الاحتلال العسكري لأفغانستان و من ثم للعراق ، فأوقعت نفسها في ورطةٍ و أزمة لم تحسب نتائجهما و خسرت الكثير الكثير و في كل المجالات نتيجة لهذا التورط .
و لخشيتها من التورط المباشر و لاستمرار نهجها الاستعماري و مصادرتها لحرية الشعوب و عدائها للإسلام و المسلمين ، فقد دفعت أثيوبيا للتدخل العسكري المباشر في الصومال نيابة عنها ، و بالرغم من عدم قدرة أثيوبيا و مَن وراءَها على حسم هذا الصراع لصالحهم بسبب تصدي الشعب الصومالي و المجاهدين لهذا الغزو العسكري ، إلا أنّ هذه الحرب أوقعت الكثير من القتلى في صفوف الطرفين و تركت بصماتِها المأساويةَ و آثارَها المؤلمةَ على الشعب الصومالي المسلم الذي نسأل الله أن يتعافى من هذه الحرب و آثارها، و أن يخرج منتصراً منها و أن يكون الخزي و الهزيمة من نصيب أمريكا و الدمى التي تحركها .
و لم يقتصر الأمر على ما ذكرنا بل وصل الصلف الأمريكي إلى تحدي روسيا في عقر دارها في أوكرانيا و جورجيا و جمهورية التشيك و بولندا عبر مشروع الدرع الصاروخي ، و تأبى هذه الإدارة الأمريكية المتعجرفة أن تغادر البيت الأبيض إلا و وجهُها الأسودُ يزداد سواداً و بأزمة دولية جديدة تسببت بها و نعني أزمة القوقاز التي وقعت مطلع آب المنصرم ، و التي بدا واضحاً فيها أن أمريكا و معها إسرائيل قد دفعتا جورجيا بزعامة رئيسها رجل أمريكا ميخائيل سكاشفيلي الذي لا يُخْفِي أصوله اليهودية و وزير دفاعه دافيد كزرشفيلي الذي يتقن اللغة العبرية و يحمل الجنسية الإسرائيلية ، قد دفعتاها إلى هذه المغامرة الفاشلة بشنها هجوماً على أوسيتيا الجنوبية غير آبهة بنتائج هذا التدخل العسكري ، و لم تدرك أمريكا التي تتسم سياستها بالغرور و الغطرسة أن هنالك متغيراتٍ دوليةً و أن حساب الحقل لا ينطبق على البيدر و أن حساباتها لا تزال خاطئة و تعود عليها بالضرر و الخسارة ، ذلك أن روسيا اليوم قد توفرت لها إمكانيات السيطرة داخلياً في عهدي قيصر روسيا الجديد بوتين و توفرت لها إمكانيات الدفاع العسكرية و النووية و أنها أصبحت تتمتع باقتصاد يتعافى تدريجياً نتيجة للفورة النفطية و الحصول على عوائد ضخمة من أسعار النفط و الغاز و أن بإمكانها إحداث التأثير الفعال في الموقف الدولي ، فكان التدخل الروسي العسكري السريع و الحاسم في جورجيا و تبعه بعد ذلك اعتراف روسيا باستقلال أوسيتيا الجنوبية و أبخازيا ، و هنا شعر الغرب الأمريكي و الأوروبي باللطمة الروسية فأصابته بالصدمة و الحيرة ، فارتأى أسلوب الوساطة و الدبلوماسية فكانت الوساطة الفرنسية و محاولة الرئيس الفرنسي ساركوزي معالجة هذه الأزمة و وضع حلول لها ، و عقدت قمة الأتحاد الأوروبي و اتخذت قرارات هادئة و أبدت ردود فعل غير متشنجة باتخاذها قرار تجميد الشراكة الإستراتيجية مع روسيا و عدم فرض عقوبات اقتصادية و سياسية و دبلوماسية عليها .
و ما أزمة القوقاز التي نحن بصددها إلا مثالاً حياً للتنافس الشديد بين الدول الكبرى على المواقع و الثروات و النفط و الغاز و المجالات الحيوية و القوة غير المسبوقة التي أضحت عليها الشركات الرأسمالية الكبرى عابرة القارات في ظل عولمة متوحشة فتحت الباب على مصراعيه لنهب ثروات الشعوب و كبلت الدول الفقيرة و رهنتها للثالوث غير المقدس البنك الدولي و الصندوق الدولي و منظمة التجارة العالمية ، و كذلك فإن أزمة القوقاز مثالاً حياً لاستعمال هذه الدول الكبرى كل الوسائل و الأساليب الخبيثة و منها الحروب و الدمار لتحقيق غاياتها الاستعمارية غير آبهة بحرية الشعوب و أرواحها .
ألا يدفع هذا الواقع المؤلم الأمة الأسلامية للإنعتاق من نير المبادئ و الأنظمة الفاسدة التي تُطبّق عليها و العمل على تغيير هذا الواقع الفاسد الذي تعيشه و العمل على إنقاذ البشرية من شقاء الدول الكبرى و أدواتها و مصالحها الاستعمارية ، فتأخذ موقعها الرائد الذي أراده لها ربّ العزة بحمل مشعل الهداية و العدل للعالم أجمعين حتى ينطبق فيها قول الله عزّ و جل { وَ مِمّنْ خلقنا أمّةٌ يهدون بالحقِّ و به يعدلون } صدق الله العظيم ، سورة الأعراف – آية 181 .
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير: الأستاذ ياسر غيث