مع القرآن الكريم – الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ دِينِكُمْ
{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلاَمَ دِينًا }
سورة المائدة: 3
قوله تعالى: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } أي يئسوا من أن يزول هذا الدين ويندثر، أو أن يرجع المسلمون عن دينهم. ويؤيد هذا المعنى الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن التحريش بينهم ).
وقوله تعالى: { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } قال ابن كثير: (أي لا تحافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأُبدهُمْ وأُظْفِرْكمْ بهم وأُشفِ صدوركم منهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة). وقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } واليوم هو يوم عرفة في حجة الوداع وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بواحد وثمانين يوماً، والمكان هو جبل عرفات. وروى الإمام أحمد في مسنده: ( جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟ قال: قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }، فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشية عرفة في يوم جمعة ). ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. وهما عيدان: يوم عرفة عيد ويوم الجمعة عيد.
وقد ظن بعضهم أن هذه الآية هي آخر ما نزل من القرآن، وسبب هذا الظن توهمهم أن إكمال الدين هو خَتْمٌ لنـزول القرآن الكريم. والمقصود بإكمال الدين هو إكمال الأحكام وإكمال العقائد، وما نزل بعد ذلك إن هو إلا تأكيد لما سبق. أما آخر ما نزل من القرآن فهو الآية 281 من سورة البقرة، أي قوله تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } قال ابن كثير: (عن سعيد بن جبير قال آخر ما نزل من القرآن كله { وَاتَّقُوا يَوْمًا… } الآية وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات يوم الاثنين (ليلتين خلتا من ربيع الأول).
{ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو دين الإسلام الذي أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم الأنبياء والرسل ورسالته خاتمة الرسالات. فيكون إكمال هذا الدين هو إكمال له إلى قيام الساعة. فالبشرية ليست بحاجة إلى رسل ولا إلى وحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وبعد نزول هذه الآية بيوم واحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر في خطبة حجة والوداع: ( وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيّناً: كتابَ الله وسنّة نبيه ).
فالإسلام كامل في شرائعه وعقائده فنحن لسنا في حاجة لأن نزيد عليه أي شيء. وقد حذرنا صاحب الرسالة من الابتداع والزيادة بقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ). وكل ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية هو وجود المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام للمشاكل المتجددة من الأصول الشرعية.
وكما أنه لا يجوز أن نبتدع ونزيد فلا يجوز لنا أن نعطل ونهمل شيئاً من الدين كما فعلت الأمم السابقة الذين توعدهم الله بقوله: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ }. { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } أي أن نعمة الله تمت على هذه الأمة بإكمال دينها. وهذه منّة عظيمة. فإذا أرادت هذه الأمة زيادة من نعمة الله فما عليها إلا أن تكمل أخذها وتمسكها بهذا الدين الذي هو سبب النعمة. فإذا طلبوا النهمة من الكافر فقد خسروا نعمة الدنيا والآخرة. { وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } إنها خطابات من الرحمن الرحيم إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيها تكريم وفيها تحبب. فهل نرفض ما رضيه الله لنا، وهل نعارض عما رغبنا الله فيه وجعله عنوان النعمة والرضوان والفلاح في الدنيا وفي الأخرى؟.