وامعتصماه- للأستاذ أبي إبراهيم
اجتمعت على الدولة العباسية في النصف الأول من القرن الثالث الهجري قوتان رهيبتان:
الأولى:المجوسية متجسمة في أتباع بابك الخـُرَّميِّ, الذي قتل من المسلمين والمسلمات في عشرين سنة مائتين وخمسة وخمسين ألفا ً.
والثانية:البيزنطية متكئة على جيوش ثيوفلس بن ميخائيل ملك القسطنطينية والأناضول, الذي رصد لحرب المسلمين مائة ألف جندي أو يزيدون.
ولما ضيقت الجيوش الإسلامية الخناق على بابك, وقامت بحركاتٍ عسكريةٍ واسعةٍ في الشرق, لم يسبق لها نظير في تاريخ الحروب, كانت الرسائل دائرة حينئذ بين عدوَّي الإسلام ثيوفلس وبابك نصير المجوسية. فبادر ثيوفلس إلى حرب المسلمين في الشمال؛ ليخفف الضغط عن بابك الخـُرَّميِّ في الشرق, فبينما الفيالق المحمدية تخوض الموت خوضا ً في أذربيجان وأرمينيا, للبطش بزعيم المجوسية, كان ثيوفلس يغدر في البلاد الإسلامية التي على حدود الأناضول مثل ملطية وزبطرة وغيرهما, فيسبي المسلمات, ويسمُل (يفقأ) عيون الشيوخ المسلمين, ويقطع أنوف أطفالهم وآذانهم, وقد ارتكب من الفظائع ما تقشعر له الأبدان, منتهزا ً خلو هذه الديار من الجيوش الكافية المشغولة بحرب بابك.
وكان من بين النساء المسلمات اللاتي ساقهن ثيوفلس من زبطرة إلى عمورية بالقرب من أنقرة, سيدة من نساء بني هاشم, ممتلئة بالعزة والأنفة والشجاعة والشرف, وكانت ترى أنَّ كل ما في الدنيا من عزة وشجاعة وشرف متمثل في نفس الخليفة أمير المؤمنين, المعتصم بن هارون الرشيد؛ لأنه إمام المسلمين, وقائد جيوشهم, فهو ــ بمن تحت إمرته من ملايين الأسود, وبما هو قائم من نـُصرة دين الله ــ قادر على أن يزيل عن رعيته كل بؤس مهما كان شديدا ً!
وفي ضحوة يوم من أيام الشتاء, سنة ثلاث وعشرين ومائتين هجرية, آذار سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة ميلادية, كان أمير المؤمنين جالسا ً في قصره العظيم بمدينة (سُرَّ من رأى) ومن حوله حشمه وأهل قصره, فقال له الحاجب: يا أمير المؤمنين, شيخ مسلم بالباب, هارب من أسر الروم, يريد المثول بين يديك.
فلما أذن له دخل فقال: يا أمير المؤمنين, جئتك من عمورية, المجاورة لأنقرة, وكنت أسيرا ً فيها, فسمعت سيدة مسلمة من أسرى زبطرة تنادي ــ رُغم ما بينك وبينها من جبال ومفاوزــ وامعتصماه! فجئتك هاربا ً من أسرهم, مقتحما ً صنوف الأخطار؛ لأبلغك صوتها!
فلما سمع الخليفة أمير المؤمنين, المعتصم بن هارون الرشيد مقالة ذلك الشيخ نهض في الحال مجيبا ً نداءها: لبيك , لبيك! ودعا إليه عبد الرحمن بن إسحاق قاضي بغداد, وشعبة بن سهل, أحد كبار العلماء, وثلاثمائة وثمانية وعشرين رجلا ً من أهل العدالة, فقال لهم:
إني ذاهب في سبيل الله؛ لأنقذ تلك المرأة المسلمة التي دعتني من أعماق بلاد الروم, وقد لا أعود إليكم, فاشهدوا أني وقفت جميع ما أملكه من الضياع, فجعلت ثلثا ً لولدي, وثلثا ً لله تعالى, وثلثا ً لمواليَّ.
ثمَّ أمر من صاح في قصره: النفير, النفير! ثمَّ امتطى صهوة جواده, وأخذ معه حقيبة فيها زاده, وأصدر أوامره بأن تكون الجيوش التي تلحق به أعظم جيوش سالت بها الأباطح قبل ذلك اليوم!
فما زالت الجيوش تتبعه يوما ً بعد يوم, يسلك بعضها إلى أنقرة وعمورية طريق الساحل إلى جانب طرطوس ومرسين, ومنها إلى قونية فمدينة أنقرة.
والجيوش الأخرى اتبعت الطرق الداخلية بقدر ما تحتمله تلك الطرق من الجيوش, وما زالوا كذلك حتى اخترقوا الأناضول ومعاقله وحصونه, فوصلوا إلى أنقرة في ربيع سنة ثلاث وعشرين ومائتين هجرية, ثمان وثلاثين وثمانمائة ميلادية, فدمرها المعتصم على رؤوس أهلها.
ولما انتهى المعتصم من هذه المدينة, سار إلى عمورية, فكانت أمنع مدائن البيزنطيين, وأعز على الروم من القسطنطينية نفسها, فنزل على حصونها وأبراجها وأسوارها, وكانت أمنع أسوار عُرفت إلى ذلك العهد, فما زال يلح عليها بمجانيقه ورهيب آلاته, حتى دخلها في شهر رمضان في تلك السنة, وكان أول ما طلبه الوصول إلى السيدة التي استجارت به وهي في سجنها, فقال كلمته الأولى: لبيك, لبيك!
وقد ثبت بالتاريخ أن أمير المؤمنين المعتصم كان يدير الحركات العسكرية بنفسه في هذه الوقائع, ويصدر الأوامر اليومية إلى جيوش كانت منه على مسافة أيام. وهو الذي رسم خطط هذه الحرب, وعين للقواد مراكزهم, ومناطق هجومهم.
وكان هذا النصر العظيم للدولة العباسية على الروم في الأناضول, بعد نصرها العظيم على المجوسية في فتنة بابك التي دامت عشرين سنة أصدق برهان على أن الله يصدق وعده بنصر المسلمين كلما أخلصوا دينهم لله, واشتروا الحياة الأبدية بثمن رخيص, وهو هذه الحياة القصيرة, ومتعتـُها الحقيرة, فرحم الله أياما ً كان فيها المسلمون مسلمين حقا ً, وعجل الله أياما ً يُعز فيها الإسلام وأهله, ويذل فيها الكفر وأهله.
الحديقة / ج7 لخصها وسجلها بصوته لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير الأستاذ أبو إبراهيم