الحقوق الشرعية للإنسان ح2 – بقلم الأستاذ محمد عبد الله
جاء الإسلام بنظام شامل كامل، ينظم جميع أعمال الإنسان، اللازمة لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية، إشباعاً صحيحاً يتفق وفطرته كفرد، ويتلاءم مع ما يجب أن يكون عليه المجتمع الإسلامي، فنظم علاقته بربه بالعقائد والعبادات وعلاقته بنفسه بأحكام المطعومات والملبوسات والأخلاق، وعلاقته بغيره بأحكام المعاملات والعقوبات، وهي تشمل علاقة الحاكم بالمحكومين، وعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، وبذلك لم يترك الإسلام حكم أي فعل أو أي شيء إلا وبينه، وطلب من العقل أن يأخذ هذا الحكم أو يستنبطه مما جاء به الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وباستقراء الأدلة الشرعية وما نتج عنها من أحكام، وجد الفقهاء المسلمون أن الإسلام كفل للإنسان حقوقاً شرعية، تحقق له ثلاثة أنواع من المصالح وهي: الضروريات، و الحاجيات، والتحسينات.
أما الضروريات، فيقصد بها تلك المصالح التي تتوقف عليها حياة الفرد الكريمة، وقيام المجتمع الصالح المستقر، بحيث إذا لم تتحقق اختل نظام حياة الإنسان، وساد الناس الفوضى والفساد، ولحق بهم الشقاء والتعاسة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، وهذه الضروريات ثمانية، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، والكرامة، والأمن، والدولة.
أولاً: حفظ الدين :
الإسلام لا يكره أحداً على الدخول فيه، قال تعالى: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي…) وهذا لا يعني حرية العقيدة المستمدة من الحق الطبيعي الذي نادت به الرأسمالية، لأن غريزة التدين لا تكفي وحدها للوصول إلى العقيدة الصحيحة، فالإنسان بحاجة إلى رسل من الله تعالى لتبليغه هذه العقيدة، فإن اعتنقها فلا يجوز له أن يرتد عنها، فالمسلم الذي يرتد عن الإسلام بعد أن آمن به، يناقش، ويستتاب، فإن أصر على ارتداده كانت عقوبته الشرعية القتل، قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)) وذلك لأن العقيدة الإسلامية التي اعتنقها، تلائم فطرة الإنسان ومبنية على عقله، فارتداده عنها مخالف لفطرة الإسلام ولعقله، وهو ظاهرة مرَضية يجب اجتثاثها لئلا تنتقل العدوى بها إلى سائر المجتمع، وذلك حفظاً لدين الله الذي ارتضاه للإنسان وكرمه به.
وقد شرع الإسلام أحكاماً لحفظ الدين كحمل الدعوة إليه ورد الاعتداء عنه، ووجوب الجهاد ضد الكيانات الكافرة به لنشره، قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله… )
فحفظ دين المسلم حق من حقوقه الشرعية، يدافع عنه بنفسه وماله، وتدافع عنه الدولة بنظامها وقوتها.
ثانياً: حفظ النفس:
وقد شرع الإسلام ما فيه بقاء لها، فحرم قتلها والاعتداء عليها، وسن القصاص للمحافظة على حياتها، قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعذب الذين يعذبون النفس في الدنيا))، وقد أباح للإنسان بعض ما حرم عليه من أجل أن يحافظ على نفسه من الهلاك قال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه.. )
وأعطى الله الحق للإنسان أن يقاتل دون نفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن مات دون دمه فهو شهيد… )
ثالثاً: حفظ العقل :
أنزل الإسلام العقل منزلته المرموقة التي تليق به، فجعله مناط التكليف، وحث على استعماله، فطلب التدبر والتفكر للوصول إلى العقيدة الصحيحة التي يقتنع بها، وطلب منه الاجتهاد للوصول إلى الحكم الشرعي، ورفع الإسلام من منزلة العلماء، قال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وحرم كل ما من شأنه أن يؤثر على عمل العقل، كشرب الخمر، وتناول المخدر، وامتهان السحر، وشرع عقوبات على من يتعاطى ذلك حفظاً للعقول.
رابعاً: حفظ النسل :
ندب الإسلام إلى تكثير النسل، فحث على تزوج الودود الولود، وحرم الخصاء. وحافظ على النسب، فحرم الزنى، ورتب عليه عقوبة زاجرة، وأوجب النفقة على المولود له، وحث على تربية الأبناء التربية الصالحة، ولا سيما البنات لكونهن سيصبحن زوجات، والزوجة ركن أساسي في بناء الأسرة وتربية الأطفال، قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له ابنة فأدبها وأحسن تأديبها، وعلمها وأحسن تعليمها، كانت له ستراً من النار يوم القيامة) .
فالإسلام أعطى المسلم الحق في اختيار زوجته، وتربية أطفاله والمحافظة على نسله ضمن أحكام الإسلام.
خامساً: حفظ المال :
أباح الإسلام للإنسان حيازة المال، وشرع له أسباباً للتملك، وحث على تنمية المال بالطرق الشرعية، وفي نفس الوقت جعل للفقراء حقاً في أموال الأغنياء، وحرم أخذ مال الآخرين إلا عن طيب نفس، وشرع أحكاماً لحفظ المال، ولحفظ الملكية الفردية، فحرم السرقة ورتب عليها عقوبة زاجرة، وهي قطع يد السارق، وحرم إتلاف المال، وشرع الحجر على السفيه والمجنون والقاصر للمحافظة على أموالهم، ووضع أحكاماً خاصة لكل من الملكية العامة وملكية الدولة، والملكية الفردية، ليصل لكل إنسان من رعايا الدولة الإسلامية حقه من المال.
سادساً: حفظ الكرامة :
كرم الله الإنسان منذ خلقه، فطلب من الملائكة أن يسجدوا لآدم، قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) (70/ الإسراء)، وسخر له كثيراً مما خلق، قال تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض…) (20 / لقمان)، ثم أكد الإسلام حرمة العرض والكرامة للإنسان، مع حرمة الدماء والأموال، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم دماءكم وأعراضكم وأموالكم)، فحرم أن يضرب الإنسان بغير حق، وأنذر باللعنة من ضرب إنساناً ظلماً، وحرم الإيذاء المعنوي للإنسان، فحرم السخرية منه، واغتيابه، وحرم الهمز واللمز والتنابز بالألقاب، وشرع حد الجلد ثمانين جلدة للذين يقذفون المحصنات بالزنى، وشرع عقوبات تعزيرية لمن طعن بكرامة الناس أو شهد عليهم زوراً .
ولم يكتف الإسلام بحماية كرامة الإنسان في حياته، بل كفل له الاحترام بعد مماته، فشرع غسله وتكفينه ودفنه، والنهي عن الاعتداء على جثته، قال صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم الميت ككسره حياً) رواه أبو داود.
سابعاً: حفظ الأمن :
شرع الإسلام حد الحرابة على الذين يخلون بالأمن، فيقطعون الطريق ويعتدون على الأموال أو الأنفس، ويخيفون الناس، قال تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً، أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض…) وقد شرع عقوبات تعزيرية رادعة على الذين بخلون بالأمن عن طريق الفتن أو الشائعات المرعبة، قال صلى الله عليه وسلم: (المرعبون في النار) وقال: (من أشار إلى أخيه بحديدة لعنته الملائكة)، فمن حق المسلم في النظام الإسلامي أن يعيش آمناً على نفسه وماله وعرضه.
ثامناً: حفظ الدولة:
أوجب الإسلام على المسلمين أن تكون لهم دولة تحكمهم بما أنزل الله، وتحمل رسالة الإسلام إلى الناس كافة، وأوجب عليهم أن ينصبوا عليهم خليفة واحداً، يبايعونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وحرم عليهم أن يظلوا أكثر من ثلاثة أيام دون خليفة ودون دولة إسلامية، ورتب على كل مقصر في ذلك عقوبة شديدة، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) وقد أخر الصحابة دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظاً لهذه الدولة، فبايعوا أبا بكر الصديق خليفة له قبل دفنه، تقديراً لهم لأهمية هذه الدولة التي ترعى شؤون المسلمين بالإسلام، فتحمي الثغور، وتنفذ الحدود، وتحافظ على النفوس.
فمن حق المسلم أن تكون له دولة ترعى شؤونه بالإسلام الذي آمن به عقيدة ونظام حياة، وقد ضمن له الإسلام هذا الحق فجعل إقامة الدولة فرضاً على الكفاية وهو من أجلّ الفروض وأعظمها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
هذا بالنسبة للضروريات أما الحاجيات: فهي الأمور التي يحتاجها الناس لرفع الحرج عنهم، ولتخفيف أعباء التكاليف عليهم، ففي العبادات كلفهم بما يستطيعون، وشرع لهم الرخص تخفيفاً عليهم إذا كان تنفيذ الحكم في ظرف من الظروف، أو في حالة من الحالات مشقة لهم،
ففي العبادات أباح للمسافر أو المريض أن يفطر في رمضان، وأباح للعاجز عن القيام أن يصلي قاعداً وهكذا ..
وفي المطعومات أحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث ورخص للمضطر أن يأكل ما حرم عليه حفظاً لحياته من الهلاك، قال تعالى: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم).
وفي العقوبات وضع لهم قواعد: (تدرأ الحدود بالشبهات) وشرع الدية على العاقلة في القتل الخطأ تخفيفاً عن القاتل.
وأما النوع الثالث من المصالح فهو التحسينات: والتحسينات هي الأمور التي تحسن حال الناس، وتجعلها على وفاق ما تقتضيه الحياة الكريمة، من مروءة ومكارم أخلاق.
ففي العبادات شرع الطهارة للبدن والثوب والمكان وندب أخذ الزينة عند كل مسجد أي كل صلاة.
وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والخداع، وحث على السماحة والأمانة.
وفي الحرب حرم قتل الرهبان والصبيان والنساء غير المحاربات، ونهى عن المثلة والغدر وقتل الرسل، وقتل غير المحاربين كالمزارعين والأجراء.
وفي العقوبات حرم التعذيب لإثبات التهمة، وأمر بإحسان تطبيق العقوبة.
وفي الأخلاق طلب الاتصاف بالصدق والعفة والأمانة، ونهى عن الكذب والفحش والخيانة، مما يوجد الود والاحترام والثقة بين أفراد المجتمع.
والجاجيات والتحسينات تكمل الضروريات وتعززها، مما يساعد المسلم أن يعيش حياة آمنة كريمة عزيزة.
فلا بد للمسلمين إذا أرادوا النهوض والرقي، والعيش بطمأنينة وكرامة أن يعودوا إلى دينهم الحق، يستنطقون مصادره ونصوصه، في كل ما يعترضهم من مشكلات، وفي كل ما يستجد من أحداث ومصطلحات، ليجدوا فيه العلاج الشافي لها، والقول الفصل فيها، وعليهم أن لا يخدعوا بالشعارات الزائفة، وبالمصطلحات الغربية البراقة، فالفكر الإسلامي، فكر سامٍ، منبعه الوحي الإلهي، بينما الفكر الغربي الرأسمالي، فكر وضعي بناه البشر على عقيدة كفر، وشتان ما بين الفكرين، قال تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) .
محمد حسين عبدالله