البيعة لخليفة المسلمين ح3 – الأستاذ أبو إبراهيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعه وسار على دربه, واهتدى بهديه, واستن بسنته, ودعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين, واجعلنا معهم واحشرنا في زمرتهم, برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا سهل إلا َّ ما جعلته سهلا , وأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلا.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
ربِّ اشرح لي صدري, ويسِّر لي أمري, واحلل عقدة من لساني, يفقهوا قولي.
أحبتنا الكرام: مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير, أحييكم بتحية الإسلام, فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد:
أحبتنا الكرام: حديثنا في هذا اليوم هو عن البيعات التي تمت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
لـَقدْ أنزَلَ اللهُ سُبحَانـَهُ وَتعَالى رسَالة َ الإسلام، وَهِيَ رسَالة ٌ عَامَّة ٌ شَامِلة ٌ لِلبشريَّةِ جَمعَاء، تـُنظـِّمُ شـُؤونَ الحَياةِ كـُـلـَّهَا، وَتـُعَالِجُ مَشاكِلَ الإنسَان ِ مِنْ حَيثُ هُوَ إنسَانٌ، وَتـُنظـِّمُ عَلاقاتِهِ مَعَ خـَالِقِهِ، وَمَعَ نـَفِسِهِ، وَمَعَ غـَيرهِ مِنْ بَني البَشَر ِ فِي كـُـلِّ زَمَان ٍ وَمَكان ٍ.
وَعِندَمَا أرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَـلَّ لِلمُسلمينَ أنْ يَكـُونـُوا أمَّة ً وَاحِدَة ً، ذاتَ كِيَان ٍ مُـتـَـفـَرِّدٍ يُطبـِّقُ شَرع َ اللهِ عَلى أفرَادِهِ، وَيَحْمِلـُهُ إلى العَالمينَ بالدَّعوَةِ وَالجهَادِ هـَيـَّـأ لـَهُمْ ذلكَ. تـُحَـدِّثـُـنـَا كـُتـُبُ السِّيرَةِ النـَّبويَّةِ عَن ِالبَيعَاتِ التي تمَّتْ فِي عَهدِ النـَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ ثلاثٌ:
أولا ً: بيعة العـقـبة الأولى:
في مَوسِم ِ الحَجِّ سَنـَة َ اثنتـَيْ عَشْرَة َ مِـنَ النـُّبوَّةِ، اتـَّصَـلَ وَفدٌ مِـنَ الأنصَار ِ وَهُمْ مِـنَ الأوس ِ وَالخزرَج ِ برَسُـول ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِـنـدَ العَـقبـَـةِ بـِمِنـَى فبَـايَعُـوهُ بَيعَـة َ العَـقـبَةِ الأولى، وَالتي عُرفـَتْ بـِبَيعَةِ النـِّسَاء ــ أي وفـْـقَ بَيعَـتـِهنَّ ـــ حَيثُ بَايَعُوهُ عَلى أنْ لا يُشركـُوا باللهِ شَيئا ً وَلا يَسرقـُوا وَلا يـَزنـُوا، وَلا يـَـقتـُـلـُوا أولادَهُمْ وَلا يَأتوا بـِبُهتـَان ٍ يـَفتـَرونـَهُ بَينَ أيديهمْ وَأرجُـلِهمْ، وَلا يَعصُونـَهُ فِي مَعرُوفٍ.
وَقـدَ وَرَدَ ذِكـْرُ بَيعَةِ النـِّسَاء فِي سُورَة المُمتـَحِنـَةِ حيث قال عز من قائل:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} الممتحنة12
ثانيا ً: بيعة العـقـبة الثانية :
فِي مَوسِم ِ الحَجِّ مِـنَ السَّـنـَةِ الثــَّالِثة َ عَشـْرَة َ مِـنَ النـُّبوَّةِ، بَايـَعَ الأنصَارُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيعَـة َ العَقبَةِ الثانيَةِ، والتي عُرفـَتْ بـِبَيعَةِ الحرب.
تـُرَى عَـلى أيِّ شَيءٍ جَاءُوا يُـبَايعُونـَهُ ؟ أعَـلى النـُّبوَّةِ أمْ عَـلى الرِّسَالـَةِ ؟ وَهُمَا لا بَيعَة َ فيهـِمَا مِـنْ أحَدٍ؛ لأنـَّهُمَا بوَحْي ٍ مِـنَ اللهِ تبَارَكَ وَتعَالى.
لـَقدْ بَايَعُوهُ بَيعَة َ الحَرْبِ، حَرْبِ الأحمَر ِ وَالأسوَدِ مِنَ النـَّاس ِ, بَايَعُوهُ عَـلى أنْ يَمنعُوهُ وَيَحمُوهُ مِمَّا يَمنـَعُونَ مِنـْـهُ نِسَاءَهُمْ، وَأبناءَهُمْ …
بَايَعُوهُ عَـلى إقامَةِ دَولـَةِ الإسلام ِ، يَكـُونُ فيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الحَاكِمُ، وَهُوَ رَئيسُ الدَّولـَةِ الذي يَأمُرُ فـَيُطاع, وَأمرُهُ نـَافِذ ٌ عَـليهمْ فِي كـُـلِّ أحوَالـِهمْ, فـَتـَمَّتِ الهجْرَة ُ وَأقيمَتِ الدَّولـَة ُ وَحُمِـلَ السِّلاحُ، وَبَدَأتْ رحْـلـَة ُ الصِّرَاع ِ الدَّامِي بَينَ دَولـَةِ الإسلام ِ وَدَولـَةِ الكـُـفر ِ.
وَإنْ هِيَ إلا َّ أعوَامٌ قـَليلة ٌ حَتـَّى تـَمَّ القضَاءُ عَـلى دَولـَةِ الشِّركِ وَالكـُـفر ِ, وَطـُهِّرتْ جَزيرَة ُ العَرَبِ، وَسَادَ المَنهَجُ الرَّبـَّانيُّ، وَحُمِـلَ الإسلامُ إلى خـَارج ِالجَزيرَةِ بالدَّعوَةِ وَالجهَادِ حَيثُ أوفـَى الأنصَارُ بـِبَيعتِهمْ لِرَسُول ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتـَّى أنشـَدَ مُنشِدُهُمْ فرَحا ً بهَذا الحَـدَثِ العَظيم ِ :
نـَحْنُ الذينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلى الجهَادِ مَا بـَقينـَا أبَدَا
ثالثا ً: بيعة الرضوان:
فِي السَّنـَةِ السَّادِسَةِ لِلهجرَةِ دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُـثمَانَ بنَ عـَفـَّانَ رضي الله عنه، فبَعـَثـَهُ إلى أبي سُـفيَانَ، وَأشرَافِ قـُرَيش ٍ يُخبرُهُمْ أنـَّهُ لـَمْ يَأتِ لِحَرْبٍ وَأنـَّهُ إنـَّمَا جَاءَ زَائـِرا ً لِبيتِ اللهِ الحَرَام ِ، وَمُعَظـِّما ً لِحُرْمَـتِهِ.
فانطلـَقَ عُـثمَانُ حَتـَّى أتـَى أبَا سُـفيَانَ وَعُظمَاءَ قـُرَيش، فـَبَـلـَّغـَهُمْ عَنْ رَسُول ِ اللهِ مَا أرْسَـلـَهُ بـِهِ، وَاحْـتـَـبَسَـتـْـهُ قـُرَيشٌ عِـندَهَا، فـَبـَلغَ رَسُولُ اللهِ وَالمُسلِمينَ أنَّ عـُثمَانَ بنَ عَـفـَّانَ قـَدْ قـُـتِـلَ، فـَقـَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: »لا نـَبرَحُ حَتـَّى نـُنـَاجـِزَ القـَومَ«.
فـَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النـَّاسَ إلى البَيعَةِ، فبَايَعُوهُ بَيعَةََ الرِّضوَانِ تـَحْتَ الشـَّجَرَةِ، فكانَ النـَّاسُ يـَقـُولـُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللهِ عَلى المَوتِ. وعرفت هذه البيعة بـِبَيعَةِ الشجرة.
وَكانَ جَابـِرُ بنُ عَبدِ اللهِ يَقـُولُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لـَمْ يُبـَايعْـنـَا عَلى المَوتِ، وَلكِنْ بَايـَعَنـَا عَلى أنْ لا نـَفـِرَّ .
وَقـدَ وَرَدَ ذِكـْرُ بَيعَةِ الرِّضْوَان ِ فِي سُورَة الفـَتح ِ في قوله تعالى:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)}الفتح
وَانتهَى عَهدُ النـُّـبُوَّةِ وَالرَّحمَةِ وَبَدأ عَهْـدُ الخِلافـَةِ الرَّاشِدَةِ عِندَمَا اختـَارَ اللهُ رَسُولــَهُ الكريمَ صلى الله عليه وسلم إلى جوَارهِ, حَيثُ الرَّفيقُ الأعْـلى, قالَ جَـلَّ شَأنـُهُ:
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ(30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} الزمر
أحبتنا في الله:
لقـَدْ كانـَتْ وَفـَاة ُ رَسُول ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كالصَّاعـِقـَةِ نـَزَلـَتْ عَلى رُؤوس ِ أصحَابـِهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ لِدَرَجَةِ أنـَّهَا أذهـَلـَتـْهُمْ, وَأفـقـَدَتـْهُمْ بَعضَ صَوَابـِهمْ،
حَتـَّى إنَّ عُمَرَ بنَ الخـَطـَّابِ رضي الله عنه وقف بَينَ النـَّاس ِ شَاهـِرا ً سَـيفـَهُ صائحاً:
{إنَّ رجَالا ً مِـنَ المُـنافـِقِـيـنَ يَزعُمُونَ أنَّ رَسُولَ اللهِ مَاتَ، وَإنـَّهُ وَاللهِ مَا مَاتَ, وَلكِنـَّهُ ذهَبَ إلى رَبِّهِ كمَا ذهَبَ مُوسَى بنُ عِمرَانَ … وَقـَدْ غـَابَ عَنْ قـَومِهِ أربَعينَ لـَيلـَة ً ثـُمَّ رَجَعَ إليهمْ … وَاللهِ ليَرجـِعَـنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فـَـلـَـيُـقـَطـِّعـَنَّ أيـدِي رجَــال ٍ وَأرجُـلـَهُمْ زَعَـمُوا أنـَّهُ مَاتَ … ألا لا أسْمَعُ أحَدا ً يـَقـُولُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ مَاتَ إلا َّ فـََـلـَـقـْتُ هَامَـتـَهُ بـِسَيفي هَذا}!
أمَّا الصِّديقُ أبُو بَكر ٍ رضي الله عنه فـَقـَدْ دَخـَـلَ عَلى رَسُول ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسجَّىً فِي نـَاحِـيَة البَيتِ، فـََكشـَفَ عَنْ وَجْهـِهِ ثـُمَّ قبـَّـلـَهُ وَقـَالَ:{بـِأبي أنتَ وَأمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، طـِبْتَ حَيـَّـا ً وَمَيـتـا ً}.
ثـُمَّ رَدَّ الثــَّوبَ عَـلى وَجْهـِهِ الشـَّريفِ ثـُمَّ خـَرَجَ وَعُمَرُ يُـكـَلـِّمُ النـَّاسَ، فـَدَعَاهُ لِلسـُّـكـُوتِ، فـَأبَى عُمَرُ إلا َّ أنْ يَسترْسِـلَ فِي قـَولِهِ، فـَـلـَمَّا رَآهُ أبُو بَـكر ٍ لا يُـنصِتُ، أقـْبـَـلَ عَلى النـَّاس ِ يُكـَـلـِّمُهُمْ. فـَـلـمَّا سَمِعُوهُ أقـبـَـلـُوا عَـليهِ مُنصِتـِينَ، فحَمِدَ اللهَ وَأثــْـنـَى عَـليهِ ثـُمَّ قـَالَ :
{أيـُّهَا النـَّاسُ: مَنْ كانَ يَعبُـدُ مُحَمَّدا ً صلى الله عليه وسلم فإنَََّ مُحَمَّدا ً قـَدْ مَاتَ، وَمَنْ كانَ يَعبُـدُ اللهَ، فإنَّ اللهَ حَيٌ لا يَمُوتُ}!
ثـُمَّ تـَلا قـَولـَهُ تـَعَالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ }آل عمران144
لقـَدْ أظلمَتِ الدُنيـَا فِي عُـيُون ِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ بوَفـَاةِ النـَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لكنـَّهُمْ مَعَ ذلكَ أحسَنـُوا التـَّصَرُّفَ حِـينَ تـَزَاحَمَتْ عَـليهمْ أربَعَة ُ فـُرُوض، هِيَ مِنْ أعظـَم ِ الفـُرُوض ِ التي فرَضَهَا اللهُ سُبحَانـَهُ وَتعَالى، ولقـَدْ قـَامُوا رضي الله عنهم بهَذِهِ الفـُرُوض ِ كـُـلـِّهَا حَسَبَ الأولـَويَّةِ :
فانشَغـََـلـُوا أولاً : بتـَنصيبِ خـَليفـَةٍ لِـرَسُول ِ اللهِ يَخـْـلـُـفـُهُ عَـليـهِ الصَّــلاة ُ وَالسَّــلامُ فِي رئاسَــةِ الدَّولـَـــةِ الإسلاميَّــةِ. انشـَغـَلـُوا بمُبـَايَعَةِ الخـَليفـَةِ لأنـَّهَا الفرْضُ الأهَمُّ فِي إجمَاعِهمْ بَيـنَ تـِلكَ الفـُرُوض ِ كـُـلــِّهَا .
ثانيا ً: ثـُمَّ إنـَّهُمْ قـَامُوا بـِدَفـْن ِ الرَّسُول ِ صلى الله عليه وسلم ثانياً.
وثالثا ً: أنفـَذوا بَعثَ جَيشَ أسَامَة َ بنَ زيدٍ رَضِيَ اللهُ تعَالى عـَنهُ الذي أمَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَـلى قـِيَادَتِهِ.
ورابعا ً وأخيراً: حَارَبُوا المُرتـَدِّينَ عَن ِالإسلام ِ بمَنعِهمُ الزَّكاة َ.
إخوة الإيمان: نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة على أن نتابع معكم في الحلقة
القادمة إن ظل في العمر بقية كيف انتقلت الخلافة إلى أبي بكرٍ الصديق رضي الله
عنه وأرضاه، وإلى ذلك الحين إن شاء الله، أستودع الله دينكم وإيمانكم وخواتيم أعمالكم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.