الحِمى في المنافع العامة- الأستاذ أبو عبيدة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله ربّ العالمين الذي قدّر في الأرض أقواتها ، ووضع فيها للنّاس والأنعام أرزاقها . والصلاة والسلام على سيّد الخلق وإمام المرسلين سيدنا محمد . وبعد :
لقد أنزل الله تعالى دين الإسلام إلى الناس كافة ، وشرع فيه من الأحكام التي من شأنها أنْ تُخرج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن عبادة العباد والعيش بحسْب شرائعهم وقوانينهم إلى عبادة ربّ العباد والعيش بحسْب شريعته وأحكامه .
ومن هذه الأحكام التي شرعها الله لعباده أحكام الـمُلكيّة ، إذ تميّز الإسلام عن غيره من المبادئ والأنظمة بأن جعل الملكية على ثلاثة أقسام : ملكية فردية خاصة ، وملكية للدولة ، وملكية عامة للناس . فكما أن الله شرع وأذِن للفرد أن يتملك ؛ فيتملك ما يقوى به على تدبير شؤونه وقضاء حاجاته ، وكما أن الله شرع وأذِن للدولة أن تتملك ؛ فتتملك ما تقوى به على تدبير شؤونها وقضاء حاجاتها ، فكذلك شرع الله للناس ملكية عامة يقوون بها على تدبير شؤونهم وقضاء حاجاتهم ، بحيث يكون لجميع الناس حق الانتفاع بها . فالمنافع العامة هي الأعيان التي جعلها الإسلام لكل الناس يشتركون في حق الانتفاع بها ، أي جعلها مملوكة للجماعة ، كالمراعي والمساجد والطريق العام والبحار والأنهار وغيرها .
وأما الحمى في المنافع العامة فهو أن يقوم أحدٌ من الأفراد أو الدولة بحماية شيءٍ من الملكيات العامة وحيازته لنفسه ومنع الجماعة من بالانتفاع به . وأصل الحمى عند العرب أنّ الرئيس منهم كان إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان عال ، فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب فلا يرعى فيه غيره . فالحمى هو المكان المحمي الذي يُمنع منه الغير . فجاء الإسلام ومنع الناس أن يحموا شيئاً من الأشياء العامة التي ينتفع بها جماعة الناس ، فيحوزونها لهم وحدهم دون غيرهم . وقد وردت أحاديثُ كثيرة ٌ تدلّ على هذا منها قوله صلى الله عليه وسلم ( لا حمى إلا لله ولرسوله ) رواه أبو داود . وقوله ( ثلاث لا يُمنعن : الماء ، والكلأ ، والنار ) رواه ابن ماجة .
وهذه الأعيان التي جعل الله ملكيتها عامةً يشترك في الانتفاع بها جميع الناس تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، وهي :
1. المرافق التي لا تستغني عنها حياة الجماعة اليومية .
2. الأعيان التي تكون طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الأفراد بحيازتها .
3. المعادن العدّ التي لا تنقطع . أي الكثيرة غير محدودة المقدار .
أما النوع الأول فهي الأعيان التي تتعلق بها حاجة الجماعة اليومية ، بحيث إن فُقدت فإنّ الجماعة تتفرق في طلبها والبحث عنها وتوفيرها كالماء والمراعي مثلاً ، حيث كانت القبائل تتفرق في طلبها عند فقدها . ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ( الناس شركاء في ثلاث : الماء والكلأ والنار ) رواه أبو داود . فهذه الأعيان التي ذكرها الحديث طبيعتها أنها تتعلق بها حاجة الجماعة اليومية فجعلها الإسلام مملوكة للجميع يشتركون في الانتفاع بها .
ويلحق بها كلّ آلة تستعمل فيها ؛ فمثلاً آلات استخراج وضخ المياه وأنابيب وشبكات توصيلها لمنازل الناس ، وكذلك آلات ومحطات توليد الكهرباء وأعمدتها وأسلاكها وشبكات توصيلها إلى منازل الناس ، كلها تكون ملكية عامة ، والسبب في ذلك أمرين إثنين : الأول أنّ هذه الآلات والمعدات قد استعملت في الأعيان التي تعلقت بها حاجة الجماعة اليومية ، والثاني أنها قد أقيمت في الطريق العام والذي هو من الملكية العامة للناس . لذلك فإنّ مثل هذه الآلات والمحطات والشبكات يحرم أن يتملّكها أحد لا أفراداً ولا شركات ، ويحرم على الدولة أن تملكها لأحد ، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ( من منع فضل الماء ليمنع فضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامه ) رواه أبو عبيد في الأموال . وما رواه الإمام أحمد عن إياس بن عبد ( لا تبيعوا فضل الماء فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء ) .
أما إذا كانت هذه الأعيان وما يلحق بها من آلات ومعدات لا تتعلق بها حاجة الجماعة اليومية ، وكذلك أن لا تكون قد أقيمت في الطريق العام بل وضعت في أملاك أصحابها فإنها حينئذ تكون ملكية فردية لأصحابها يجوز تملكها وبيعها للناس ، كالآبار الصغيرة وآلات السقي وغير ذلك .
وأما النوع الثاني فهي الأعيان التي تكون طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الأفراد بحيازتها . وهذه الأعيان تشبه النوع الأول من ناحية أنها مرافقُ عامة يشترك في الانتفاع بها جميع الناس ، إلا أنها قد تتعلق بها حاجة الجماعة اليومية وقد لا تتعلق ، بل إنّ ما يميزها هو أن طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الأفراد بحيازتها وتملكها ، كالبحار والمحيطات والمضائق والقنوات ، والمساجد والطرقات ، وأماكن الحج مثلاً ، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ( مِنى مَناخ من سبق ) رواه أبو داود وأحمد . فالحديث يدلّ على أنّ هذا المكان مملوك لجميع المسلمين ، فمن سبق إلى أي مكان فيها وأناخ فيه فهو له ، لأنها مشتركة بينهم وليست مملوكة لأحد حتى يمنع الناس منها .
ويلحق بهذا النوع كل شيء يقام فيها ويأخذ منها حيزاً أخذاً دائمياً ، لأنها تكون بذلك قد اختصت بهذا الحيز اختصاصاً دائمياً ، وهذا من الحمى الذي يحرمه الإسلام . مثال ذلك القطارات وسكك الحديد ، وشبكات المياه وأنابيبها وشبكات الكهرباء وأعمدتها وأسلاكها . فهذه كلها وأمثالها تكون من الملكيات العامة ، لأنها تأخذ حيزاً من الطريق العام أخذاً دائمياً .
وأما النوع الثالث المعادن العدّ التي لا تنقطع . فهي المعادن الكثيرة غير محدودة المقدار ، سواء كانت ظاهرة يتم التوصل إليها من غير مشقة كالملح ، أو كانت في باطن الأرض تحتاج إلى مشقة وعمل . وسواء أكانت صلبة جامدة كالذهب والحديد والرصاص ، أم كانت سائلة كالنفط ، أم كانت غازية كالغاز الطبيعي . فهذه المعادن العدّ تكون من الملكية العامة لا يجوز أن يتملكها أحد أو أن تعطي الدولة امتياز استخراجها لأفراد أو شركات . ودليل ذلك ما رواه الترمذي عن أبيض بن حَمّال المازني ( أنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه الملح فقطع له ، فلما أن ولّى قال رجل من المجلس : أتدري ما قطعت له ؟ إنما قطعت له الماء العدّ . قال : فانتزعه منه ) . أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استرجع الملح من أبيض بن حَمّال عندما عرف أنه عدّ كثير غير محدود المقدار .
فهذه المعادن تقوم الدولة بمباشرة استخراجها والقيام بكل ما يلزمها من أعمال نيابة عن المسلمين ، ويكون كل ما تستخرجه منها هو ملكية عامة يوضع في باب الملكية العامة في بيت مال المسلمين .
هذه هي أقسام الملكية العامة ، وهي أعيان جعلها الإسلام ملكاً ومنفعةً لجميع الناس ، وحرّم على الأفراد أو الشركات أو الدولة تملكها ، أو منْع ِ الناس منها أو بيعها لهم بثمن أو أخذ الأجرة عليها . لاّن الدولة لا تملكها حتى تبيعها أو تؤجّرها للناس . وإنما هي نائبة عن الناس في رعاية شؤونهم ومصالحهم . فتقوم الدولة بالتصرف بهذه الأعيان و وارداتها نيابة عن المسلمين ، باجتهادها ضمن أحكام الإسلام ، بما تراه محققاً لمصلحتهم ونفعهم .
حيث تقوم الدولة بتوزيع منتجات وواردات الملكيات العامة على النحو التالي :
1. الإنفاق على ما يتعلق بالملكية العامة . كديوان الملكية العامة ، بناياته ومكاتبه وأبحاثه وموظفيه . وعلى الخبراء والمستشارين والعمال . وعلى الآلات والمصانع اللازمة للاستخراج والتصفية والتصنيع . وعلى آلات وشبكات الماء ومحطات الكهرباء . وعلى الطرق والسكك الحديدة وغير ذلك .
2. التوزيع على أفراد الرعية . الذين هم المالكون الحقيقيون لهذه الملكيات العامة ؛ فتقوم الدولة بتوزيع منتجات وواردات وأرباح هذه الملكيات عليهم باجتهادها بحسْب ما تراه محققاً لمصلحتهم . فتوزع عليهم من الأعيان نفسها كالماء والكهرباء والطاقة كالنفط والغاز ، وقد توزع عليهم نقوداً من أرباحها ، وقد تنفق منها على ما هو مصلحة لهم كإنشاء الجامعات والمستشفيات أو حتى أكثر من ذلك بجعل التعليم والتطبيب مجاناً للناس تغطي الدولة نفقاته من هذه الملكيات نيابة عن المسلمين .
3. الإنفاق على ما فرض الله على المسلمين الإنفاق عليه . كما هو معلوم أن الله تعالى قد فرض على المسلمين الإنفاق على بعض الفروض ، كفرض الجهاد والإعداد ، وفرض أغاثة المنكوبين والفقراء والمحتاجين ، وغيرها . فإذا عجزت ميزانية الدولة عن تغطية نفقات مثل هذه الأمور فإنّ وجوب الإنفاق عليها ينتقل إلى عامة المسلمين ، فتقوم الدولة نيابة عنهم بالإنفاق عليها من ديوان الملكيات العامة . أو بضرب الحمى على بعض أعيان الملكيات العامة وتخصيص وارداتها للانفاق على هذه الأبواب كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده . ودليل ذلك قوله في الحديث الذي ذكرناه ( لا حمى إلا لله ولرسوله ) رواه أبو داود . وما رواه أبو عبيد عن نافع بن عمر ( أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حمى النقيع ـ وهو موضع معروف بالمدينة ـ لخيل المسلمين ) . وكذلك حمى أبو بكر الرَّبذة لإبل الصدقة واستعمل عليه مولاه أبا أسامة . وحمى عمر كذلك الشرف والرَّبذة واستعمل عليه مولى له يقال له هني .
والناظر إلى حال هذه الأنظمة في عالمنا اليوم ، سواء الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين التي تحاول تقليد الغرب في الأخذ من دساتيره ونظمه الرأسمالية ، أو الأنظمة القائمة في بلاد الغرب نفسها . يرى الفرق الشاسع في كيفية التعامل والتصرف بالملكيات والمنافع العامة بينهم وبين الإسلام .
ففي حين أن الإسلام قد جعل هذه المنافع ملكيةً عامةً للناس وحرّم أنْ يتملكها أحد فيمنع فضلها عن الناس . نرى كيف أنّ النظام الرأسمالي قد أستباح هذه الملكيات فاختصت الدولة بتملكها أو ملكتها للأفراد من رؤوس الأموال أو الشركات ، وليس هذا فحسْب بل استعملوها كسبيل لتحصيل الأرباح وجباية الثروات من الناس . الأمر الذي أدى أن تركزت هذه الملكيات والثروات الهائلة في أيدي حفنة من الناس في حين أن فضلها كان يمكن أن يعالج مشاكل الناس من فقرٍ وبطالةٍ وغلوّ أسعار والاستقراض المهلك للناس وغير ذلك .
ففي بلد نفطيّ كالسعودية مثلاً ليس غريباً ما نراه حاصلاً عندهم كيف أنّ الثروة قد تركزت في أيدي قليلة من الأمراء وأصحاب الشركات في حين أن نسب الفقر والبطالة عندهم للناس قد بلغت أعلى مستوياتها ، والسبب في ذلك هو استباحة هذه الثروات التي جعلها الله ملكية لجميع الناس من قبل هؤلاء الأفراد فمنعوا فضلها عن باقي الناس .
وليس غريباً أيضاً ما هو حاصلٌ عند الغرب كيف أن الفقر لا بل التشرد في الشوارع بلا مأوى ولا طعام يطال الملايين من الناس عندهم ، مع أنها دول تـُعدُّ أغنى دول العالم . ولكن يبدو أن الغنى عندهم المقصود به كما كشفته وأظهرته الأزمة المالية التي حلّت بهم ، هو غنى القلة القليلة من رؤوس الأموال التي استحوذت على الثروة واستباحت ما وضعه الله في هذه الأرض رزقاً للناس .
إنّ الإسلام ليس علاجاً لمشكلات هذه الأنظمة وما خلفته من مصائب على رؤوس شعوب الأرض كافة . بل الإسلام هو البديل الحضاري العادل الذي سوف يطمس كل معالم هذه الأنظمة الرأسمالية ومخلفاتها قريباً بإذن الله .
فهو النظام العادل من عند ربّ العالمين ، فما أن تراه شعوب العالم مطبقاً سارياً في دولة فيدركوا خيره وفضله وعدله على الناس فإنهم سرعان ما تراهم يلقون ما بجعبتهم كمن يلقي الطعام النتن الكريه ويهرولوا إلى طيب العيش وخيره .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .