البيعة لخليفة المسلمين ح5 – الأستاذ أبو إبراهيم
البيعة لخليفة المسلمين
ح5
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعه وسار على دربه, واهتدى بهديه, واستن بسنته, ودعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين, واجعلنا معهم واحشرنا في زمرتهم, برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا سهل إلا َّ ما جعلته سهلا , وأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلا . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
ربِّ اشرح لي صدري, ويسِّر لي أمري, واحلل عقدة من لساني, يفقهوا قولي.
أحبتنا الكرام: مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير, أحييكم بتحية الإسلام, فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد:
نتابع معكم في هذه الحلقة حديثنا عن مبايعة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه
وأرضاه بالخلافةِ حتى نهاية عهده بها، حيث تحدثنا في الحلقة السابقة كيف سارع
المسلمون لانتخاب خليفة لهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن بينا كيف وصلت الخلافة إلى أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه.
لقـَدْ كـَرهَ المُسلِمُونَ أنْ يَعيـشـُوا يَوما ً وَاحِدا ً دُونَ أنْ يَكـُونَ لـَهُمْ إمَامٌ يَجتـَمِعُ عَـليهِ أمْرُهُمْ، فذهَبـُوا يَبحـَثــُونَ الأمرَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجَّى بثــَوبـِهِ لـَمْ يُـدفــَنْ بَعـدُ، وَأعصَابُهُمْ رَازحَة ٌ تحْتَ وَطأةِ مَوتِهِ.
ولقد تقبـَّـلَ أبو بكر رضي الله تعالى عنه مَنصِبَ الخلافة غيرَ رَاغبٍ فيهِ, وَلا حَريص ٍعَليهِ, وَلولا أنـَّها التبعاتُ الفاصلة ُ في الأيام ِ الحَاسمَةِ لآوى إلى رُكن ٍ بعيدٍ, وَلهَرَبَ مِنْ ذلكَ الأمر الذي يُسَارع الناسُ إليهِ, وَيتهالكونَ عَليهِ.
لقدْ كانَ الصدِّيقُ رَضيَ اللهُ تعالى عنهُ صَادِقا ً حينَ قالَ: (وَاللهِ مَا كـُنتُ حَريصا ً على الإمارَةِ يَوما ً وَلا ليلة ً, ولا سألتـُها اللهَ في سِرٍّ وَلا عَلانيةٍ ).
أجلْ لم يَكنْ عليها حَريصا عليهاً, ولولا أنْ يكونَ بتخلــِّيهِ عنهَا قدْ هرَبَ مِن مَسؤولياتِهِ تجاهَ دِينهِ وَإيمَانِهِ لاتخذ سَبيله إلى الفرَار سَرَبا ً! وَلقدْ حَاوَلَ ذلكَ فِعلا ً بَعدَ أن فرَغ مِنْ قمع ِ فِتنةِ المُرتدِّينَ.
فذاتَ يَوم ٍ دَخلَ عَليهِ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنهُ دَارَهُ, فألفاهُ يَبكي, وَمَا كادَ يُبصرُ عُمَرَ أمَامَهُ حَتى تشبـَّثَ بهِ كأنـَّهُ زَورَقُ نجَاةٍ وَقالَ لـَهُ: ( يَا عُمَرُ, لا حَاجَة َ لنـَا فِي إمارَتِكـُمْ)!
وَلم يتركهُ عُمَرُ يُتـِمُّ حَديثهُ, فقدْ بَادَرَهُ قائلا ً: (إلى أينَ المَفر؟ وَاللهِ لا نـُقيلكَ, وَلا نـَستقيلك)!
وَالحَاصِلُ أنَّ الصَّحَابَة َ بَاشـَرُوا الاجتمَاع َ بالسَّـقـِيفـَةِ لِلبَحْثِ في تـَنصِـيبِ خـَـليفـَةٍ لـِرَسُول ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُـنذ بـَـلغـَهُمْ نـَبـَأ وَفـَاتِهِ، وَلكِنـَّـهُمْ ظـَـلــُّوا فِي نـِقـَاش ٍ حَـتـَّى بَايَـعُـوا أبَا بَكر ٍ بَيعَة َ انعِقـَادٍ.
ثـُمَّ فِي اليَوم ِالثــَّـانِي جَمَعُـوا النـَّاسَ فِي المَسجـِدِ؛ ليُبَـايعُوهُ بَيعَـة َ الطـَّاعَةِ أي بَيعَة َ الانقـِيَادِ كمَا مَرَّ مَعـَنـَا، وَكانَ ذلكَ عَـلى مَرأى وَمَسمَع ٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عـَنهُمْ أجمَعينَ. وَلـَمْ يُنـقـَـلْ عَنهُمْ مُخـَالِفٌ أو مُنكـِرٌ لِذلكَ فكانَ إجمَاعا ً مِـنَ الصَّحَابَةِ عَـلى أنـَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَخلـُوَ المُسلِمُونَ مِنْ خـَليفـَةٍ لأكثــَرَ مِـنْ لـَيلتين ِ بثــَلاثــَةِ أيـَّام.
وَإجمَاع ُ الصَّحَابَةِ دَليلٌ شـَرعِيٌ كالكِتابِ وَالسُنـَّةِ.
والدليل على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم هو الإجماع الذي يعتبر دليلا ً شرعيا ً كالقرآن والسنة عدة أمور:
أولا ً : أنه ورد الثناء عليهم في القرآن والحديث.
فقد قال عز وجل في كتابه العزيز: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }التوبة100
وأما الحديث: فقد روى الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي, لا تتخذوهم غرضا ً بعدي, فمن أحبهم فبحبي أحبهم, ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم, ومن آذاهم فقد آذاني, ومن آذاني فقد آذى الله, ومن آذى الله يوشك أن يأخذه».
وروى البخاري في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي, فإنَّ أحدكم لو أنفق مثـل أحد ذهبا ً ما بلغ مُـدَّ أحدهم».
ثانيا ً: أن الصحابة رضوان الله عليهم هم الذين جمعوا القرآن, وهم الذين حفظوه, وهم الذين نقلوه إلينا, والله سبحانه قد حفظ القرآن, فهذا الذي نقلوه هو عينه الذي حفظه الله, لأن الله وعد بحفظه, وهؤلاء هم الذين جمعوه وحفظوه ونقلوه كما أنزل فيكون ذلك دليلا ً على صدق إجماعهم.
ثالثا ً: أنه يستحيل على الصحابة شرعا ً أن يجمعوا على خطأ, لأنه لو جاز الخطأ على إجماعهم, لجاز الخطأ على الدين, ولجاز الخطأ على القرآن؛ لأنهم هم الذين نقلوا إلينا هذا الدين, وهذا القرآن بإجماعهم.
رابعا ً: أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يكشف عن دليل, إذ الصحابة ما أجمعوا على شيء إلا َّ ولهم دليل شرعي على ذلك لم يرووه, فيكون إجماعهم دليلا ً شرعيا ً بوصفه يكشف عن دليل, وليس بوصفه رأيا ً لهم.
فهذه الأمور دليل قطعي على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم دليل شرعي, ويكفي دليلا ً على أن إجماعهم حجة كونهم يستحيل عليهم شرعا ً أن يقع الخطأ في إجماعهم, فإن هذا دليل قطعي على أن إجماعهم دليل شرعي, وهذا غير موجود في إجماع غيرهم, وبذلك يكون قد قام الدليل القطعي على أن إجماع الصحابة دليل شرعي.
إخوة الإيمان: تولى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه الحكم, ومن شاء أن يرى جلال الحكم, وعظمة الحاكم فلينظر أبا بكر غداة استخلافه, إذ خرج من داره حاملا ً على كتفيه لفافة كبيرة من الثياب.
في الطريق يلقاه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما فيسألانه: إلى أين يا خليفة رسول الله؟
فيجيبهما: إلى السوق. قال عمر: وماذا تصنع بالسوق وقد وليت أمر المسلمين؟
قال أبو بكر: فمن أين أطعم عيالي؟
سبحان الله! لم يُدخل منصب الخلافة على النفس الكبيرة أي زَهْو, ولم يحرك لها رغبة ــ أية رغبة ــ في تغيير أسلوب الحياة!
قال عمر: انطلق معنا نفرضُ لك شيئا ً من بيت المال.
وصحبهما الخليفة إلى المسجد حيث نودي أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعَرَضَ عليهم عمر رأيه في أن يفرض للخليفة (( بدل تفرغ )).
وفعلا ً فرضوا له كفافا ً بعض شاة كل يوم, ومائتين وخمسين دينارا ً في العام!
وعاش أبو بكر بهذا هو وأسرته الكبيرة, حتى بعد أن فـُتح للمسلمين أبواب الرزق والرغد, وبدأت خيرات الشام والعراق تفد إلى المدينة!
ولم يكن الصِّديق يلتزم القناعة لمجرد الزهد, بل كانت قناعته جزءا ً من إيمانه, فهو يأكل اللقمة الحلال, ويحاذر أن يُدخل في جوفه كِسرة فيها شبهة!
يحدثنا البخاري في صحيحه:«أنه كان لخليفة رسول الله غلام جاءه يوما ً بشيءٍ فأكل منه, ولما فرغ من أكله, قال له الغلام: أتدري ما هذا يا خليفة رسول الله؟ قال أبو بكر: ما هو؟ قال الغلام: إني كنت قد تكهنت لرجل في الجاهلية, وما أحسن الكهانة, إلا َّ أنني خدعته, وقد لقيني اليوم فأعطاني, فهذا الذي أكلت منه. فادخل أبو بكر يده في فمه حتى قاءَ كل شيء في جوفه»
ويضيف صاحب الصفوة إلى ذلك أنه قيل لأبي بكر: (( يرحمك الله ! كل هذا من أجل لقمة واحدة؟!)).
فأجاب قائلا ً: (( والله لو لم تخرج إلا َّ مع نفسي لأخرجتها ! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل جسدٍ نبت من سُحتٍ فالنار أولى به» فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة!)).
نعم إخوة الإيمان: كان إصرار أبي بكر عظيما ً على ألا َّ ينال من بيت المال إلا َّ ما يكفيه وأهله بالمعروف!
فحين أدركه الموت أدركه الموت دعا إليه ابنته عائشة رضي الله عنها وقال لها: (( انظري ما زاد في مال أبي بكر منذ ولي هذا الأمر فردِّيه على المسلمين !)).
تـُرى ماذا كان هناك حتى يشغل بال أبي بكر إلى هذا المدى؟ ماذا ادَّخر في أيام خلافته من ثراء يخاف أن يلقى به ربه؟!
حملت عائشة تركة أبيها فور وفاته, وفور مبايعة عمر, حملتها إلى أمير المؤمنين تنفيذا ً لوصية أبيها, فما كاد عمر يرى ويسمع حتى انفجر باكيا ً وقال: ((يرحم الله أبا بكر, لقد أتعب كل الذين يجيئون بعده!)).
يعني بهذا أنَّ الصديق بسلوكه وورعه قد سنَّ نهجا ً تناهى في العظمة, بحيث يضني بلوغه ومضاهاته كل خليفة يأتي على أثره.
إخوة الإيمان: تـُرى ما هو الميراث الذي خلفه الرجل الذي افتدى الإسلام بماله, والخليفة الذي بدأت تنثال في أيامه خيرات الشام والعراق؟
هاهو ذا الميراث الذي خلفه, وأصرَّ على أن يردِّه إلى بيت المال:
ــ بعير, كان يستقي عليه الماء!
ــ ومحلب, كان يحلب فيه اللبن!
ــ وعباءة, كان يستقبل بها الوفود!
وَتـَدُورُ عَجَـلــَة ُ الزَّمَان ِ، وَتنطـَوي سَنتـَان ِ مِـنْ خلافـَةِ أبي بَـكر ٍ الصِّديق ِ رضي الله عنه، حَافـِلـَتـَان ِ بالتـَّضحِـيَةِ وَالجهَادِ فِي سَبيل ِ اللهِ تعَالى لإعلاء كلمَةِ اللهِ، وَلنشر ِ الإسلام ِ فِي أرَجَاء الدُنيـَا، وَلِتـَوطِيـدِ أركان ِ الدَّولــَةِ الإسلاميَّةِ التي أرْسَى وَأسـَّسَ قــَوَاعِدَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
أحبتنا الكرام : بهذا نكون قد أنهينا حديثنا عن مبايعة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه
وأرضاه بالخلافةِ إلى نهاية عهده بها، وفي الحلقة القادمة إن شاء الله سيكون حديثنا
عن مبايعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة، وإلى ذلك الحين أستودعكم
الله، أستودعه دينكم وإيمانكم وخواتيم أعمالكم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.