الطريق الشرعي لاستئناف الحياة الإسلامية – بقلم الأستاذ محمد عبد الله – ح3
الصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
إخوة الإيمان: نعود لموضوعنا الرئيسي في هذه الحلقة والذي قدمنا له في الحلقتين السابقتين ألا وهو الطريق الشرعي لاستئناف الحياة الإسلامية:
فبعد إدراك واقع الدار التي نعيش فيها، وهي كما بينا دار كفر، وبعد معرفة الحياة التي نحياها، وهي حياة غير إسلامية، في مجتمع غير إسلامي، وهو نفس الواقع الذي وجد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، حين بعثه الله تعالى رسولاً لقومه وللناس كافة لتغيير حياة المجتمع الذي هو فيه، ومن ثم لتغيير حياة البشرية جمعاء. بعد إدراك ذلك، كان الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم للتغيير، لإيجاد أول حياة إسلامية، هو الطريق الشرعي الوحيد والمطلوب من كل حزب أو جماعة أن تسلكه في طريقها لاستئناف الحياة الإسلامية التي استمرت أكثر من ثلاثة عشر قرناً، لأن الله تعالى الذي طلب من الناس أن يلتزموا في حياتهم بالإسلام، طلب منهم أيضاً أن يلتزموا بالطريقة التي شرعها لتحقيق هذه الفكرة، وهي استئناف الحياة الإسلامية، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا..) ، و (ما) من ألفاظ العموم، تشمل كل ما جاء به الرسول عن طريق الوحي، من فكرة وطريقة، وقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة..) وقال مخاطباً رسوله: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني..) وزيادة في الإيضاح خط رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه خطاً على الرمل، وجعل على جانبيه خطوطاً متعددة، وقال: (هذا صراطي مستقيماً، وهذه السبل على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو له، وتلا قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل، فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) وحذر الله رسوله قائلاً: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل إليك..) وحذر المسلمين عن مخالفة أمره: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم).
هذه النصوص وغيرها توجب علينا التقيد بالطريقة التي سار عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، في حمل الدعوة حتى أقام الدولة، لا نحيد عنها قيد شعرة بحجة اختلاف الظروف، أو اتقاء البطش، ولا بحجة المصلحة العامة أو ملاءمة العصر، لأن الله تعالى الذي فرض علينا هذه الطريقة عالم ومحيط بكل شيء، ومنها الظروف وبطش أعداء الدعوة.
إن المتتبع للنصوص الشرعية في القرآن والسنة، يجد أن الخطوط العريضة لحمل الدعوة واضحة صريحة ومنها :
(1) بناء جسم الجماعة أو الحزب، وذلك بتثقيف حملة الدعوة، بأفكار الإسلام، عقيدة وأحكاماً شرعية، ثقافة مركزة، تؤهلهم لأن يصبحوا قادة للأمة، وإسلاماً يتحرك في المجتمع، وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يثقف أصحابه بما ينزل عليه من الوحي، حتى كون كتلة صلبة صالحة لخوض الصراع الفكري والكفاح السياسي في المجتمع الجاهلي، فكانت هذه الكتلة من خيرة البشر بعد الأنبياء، شاركوه الصبر على تحمل الأذى في العهد المكي، ثم شاركوه بناء الدولة في المدينة المنورة، وحملوا من بعده الإسلام إلى أنحاء المعمورة. فعلى حملة الدعوة الذين يعملون لاستئناف الحياة الإسلامية، كحزب أو جماعة امتثالاً لقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون)، عليهم أن يرسخوا العقيدة الإسلامية في أنفسهم، وفي نفوس غيرهم، وأن ينقوها من كل شائبة علقت بها عبر العصور الماضية بسبب الجهل أو التضليل، لأن وضوح العقيدة ،والتصديق الجازم بها، هو الأساس الذي يبنى عليه كل فكر إسلامي، وهو المنبع الذي ينبثق عنه كل حكم شرعي، فإن كان هذا الأساس متيناً وراسخاً عند معتقديه، كان التأثير العميق له في النفوس فعالاً، فترفع العقيدة أصحابها من الحضيض إلى الذروة، وتوسع أمامهم آفاق الوجود، فلا ينظرون إلى الحياة الدنيا على أنها آخر المطاف، وإنما ينظرون إلى غاية أبعد وأسمى، هي نيل رضوان الله في جنات الخلد، والنعيم المقيم، فيندفع المسلمون اليوم كما اندفع أجدادهم من قبل، يحملون رسالة الإسلام لنشر الهدى والعدل بين الناس، لا تكل قوتهم، ولا يوهن عزمهم، بل تحفزهم هذه العقيدة الربانية لمضاعفة الجهد وتحدي الصعاب، مستهينين بالحياة الدنيا، لإعادة الأمة الإسلامية إلى مركزها ومجدها باستئناف الحياة الإسلامية، وإقامة الدولة الإسلامية.
(2) التثقيف الجماعي للمجتمع الذي يعيشون فيه، بالأفكار التي تبناها الحزب أو الجماعة، وذلك لإيجاد الرأي العام لهذه الأفكار، بحيث يتهيأ المجتمع ويتوق لتطبيق الإسلام عليه، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتلو القرآن عند الكعبة، ويغشى المجالس والمواسم يخاطب فيها الناس بالإسلام، يدعوهم للإيمان، ويطلب منهم ترك عبادة الأصنام، بحيث صار ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر الدين الجديد، على كل لسان، ولا سيما في المدينة المنورة، إذ نقل له مصعب بن عمير أنه لم يبق بيت في المدينة إلا وفيه ذكر الله، وذكر محمد، مما هيأ مجتمع المدينة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإقامة الدولة الإسلامية فيها.
(3) التصدي لكافة العقائد والأفكار والمفاهيم المخالفة للإسلام، وباستقراء الآيات المكية نجد أن القرآن تصدى لأمور كثيرة منها :
– تصدى لعقائد المشركين، وسفه أحلامهم، فبين بطلان هذه العقائد وتفاهتها، قال تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى *..) وخاطب عقولهم: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).
– وتصدى لزعامة قريش المصرة على الكفر، وهاجمهم مهاجمة لا هوادة فيها، قال تعالى: (فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة..) وقال: (تبت يدا أبي لهب وتب..) وقال: (ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد ٍ أثيم * عتل بعد ذلك زنيم..) التي نزلت في الوليد بن المغيرة.
– وتصدى لأعمالها التي يأباها العقل السليم، وتمجها الفطرة الإنسانية، فندد بها، قال تعالى: (وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت * ..) وقال تعالى: (وقالوا ما في هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء)، وقال: (ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون).
– وتصدى القرآن لليهود والنصارى، الذين حاولوا التشويش بأسئلتهم على أذهان العرب تجاه الإسلام، فرد عليهم بقوله تعالى: (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) (الإسراء)، وأجابهم عن أصحاب الكهف، وعن قصة موسى مع العبد الصالح، وقصة ذي القرنين، ثم بين في سور أخرى، مواقف اليهود بشيء من التفصيل، وكشف وفند موقف النصارى من عيسى عليه السلام، قال تعالى: (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ ولداً سبحانه، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) .
– فلا بد اليوم لحملة الدعوة، أن يتصدوا للعقائد المخالفة، كعقيدة فصل الدين عن الحياة، والعقيدة الشيوعية وللأفكار المغلوطة، كالعلمانية والقومية والوطنية، وللأفكار المدسوسة على الإسلام، كالديمقراطية، ووحدة الأديان والاشتراكية، والتطرف والإرهاب …، لابد من التصدي لكل لذلك، والرد على معتنقي هذه العقائد ومروجي هذه الأفكار، رداً واضحاً وحازماً، دون مداهنة أو مواربة، مستعملين الأسلوب الملائم لكل حالة، كما علمنا القرآن الكريم، قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم…). فالذين ظلموا يقال لهم كما قال الله تعالى لليهود: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)، وكما قال تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً..) وكما قال تعالى عن النصارى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة…) .
– وكما قال الله تعالى للمسلمين الذين يوالون الكفار: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين). وقد حدد الله الموقف من غير المسلمين بناء على معاملتهم للمسلمين فقسمهم إلى فريقين، قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)، فريق نعاملهم بالبر والإحسان وهم أهل الذمة الذين يعيشون بيننا، والمعاهدون نعاملهم بما عاهدناهم عليه. وفريق آخر، لا يجوز موالاتهم ولا مودتهم، وهم أهل دار الحرب الذين يعادون المسلمين ويتآمرون عليهم، وقد أخرجوهم من ديارهم وساعدوا غيرهم على إخراجهم.
إخوة الإيمان نكتفي بهذا القدر من الخطوط العريضة لحمل الدعوة على أن نتابعها معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.