نفائس الثمرات- حكم الله أم حكم العقل؟
جاء في أزهار الروضتين في أخبار الدولتين للحافظ أبي شامة المقدسي: أن نور الدين الشهيد لما ولي الحكم، كانت البلاد على أسوأ الأحوال من كل ناحية، ففكر عقلاء الدولة فيما يجب السير عليه في إصلاح شئون البلاد، وارتأوا أن مجرد تنفيذ أحكام الشرع عند ثبوت إجرام المجرمين ثبوتاً شرعياً لا يكفي في قمعهم، فلا بد من أخذهم بأحكام قاسية سياسية حتى يستتب الأمن، وتصلح الأحوال، فذهبوا إلى العالم الصالح الشيخ عمر الملاء الموصلي ورجوه لما له من منزلة سامية عند نور الدين لعلمه ودينه وهو مؤلف كتاب السير الذي نقل عنه المحب الطبري كثيراً، رجوه أن يوصل إلى مسامع نور الدين ذلك الرأي الحصيف في ظنهم، فقبل رجاءهم وكتب إلى نور الدين يوصيه بالضرب على الأيدي الآثمة بأحكام صارمة بدون انتظار إلى ثبوت جرائمهم ثبوتاً شرعياً.
وبعد أن قرأ نور الدين توصية الشيخ كتب على ظهرها بيده ما يلي: “حاشا أن أجازي أحداً بجرم قبل أن يثبت جرمه ثبوتاً شرعياً وحاشا أن أتهاون في عقوبة مجرم ثبت جرمه ثبوتاً شرعياً، ولو جريت على ما رسمته التوصية لي لكنت كمن يفضل عقل نفسه على علم الله جل شأنه، ولو لم يكن هذا الشرع كافياً لإصلاح شئون العباد لما بعث الله به خاتم رسله صلى الله عليه وسلم ” وأعاد الورقة إلى الشيخ الموصلي.
ولما اطلع الشيخ على ما كتبه نور الدين بكى بكاء شديداً مراً، وقال: يا للخيبة. كان الواجب عليّ أن أقول ما قاله نور الدين. وتاب الشيخ من توصيته أصدق توبة.
وجرى نور الدين في تسيير الأمور على ما رسمه الشرع حرفاً بحرف فانقلبت الأوضاع وانعكس الأمر، فصلحت البلاد، وزال الفساد في مدة يسيرة، وأصبحت تلك البلاد من الأمان ما لو سافرت غادة حسناء وحدها ومعها أثمن الجواهر والأحجار الكريمة من أقصى البلاد إلى أقصاها، ما حدثت أحداً نفسُه أن يمسها بسوء لا في مالها ولا في عرضها.
هكذا هي أحكام الله فيها صلاح العباد والبلاد إن طبقها المسلمون كما أرادها الله عز وجل وكما بين طريقة تطبيقها، لا كما تتصورها العقول والأهواء، وليس كما يطالب البعض ممن يتسمون زورا وبهتانا بالمثقفين، بالغاء بعض ما جاء في الشريعة بحجة أنها لا تناسب الواقع، ألا بئس ما يدعون.