ضرورة الوعي السياسي المنبثق عن الإسلام
تبقى مسألة فلسطين بالذات من المسائل التي تشد العاملين في الساحة السياسية، أيا كانوا إلى العودة لها، إذا ما لاحت حولها فكرة أو حادثة أو خبر أو مستجدات قل شأنها أو كثر.
وفي هذا السياق أرجو أن يسمح لي الأخوة الكرام أن أعود إلى أحداث العدوان التي وقعت في آخر العام المنصرم على غزة في فلسطين الصابرة المحتملة، وسأحاول ما استطعت أن أختصر ما بين يدي من هذه الفكرة.
فإن أحداث العدوان اليهودي الغاشم على أهل غزة في فلسطين المحتلة الذي وقع في الفترة ما بين 27/12/2008 و 21/1/2009 قد دلت على مظاهر جديدة لافتة للنظر في منطقة العالم الإسلامي لا بد من أن نعطيها نوعاً خاصاً من الاهتمام، لا سيما وأن الأمة الإسلامية قد باتت تتطلع إلى الإسلام بشوق ولهفة، في انتظار بشائر خير تلوح إرهاصاتها في الأفق.
فقد انطلقت جموع المسلمين لأول مرة بحرقة في وقفة عز وشموخ مع أهالي غزة الصابرين عن قوس واحدة، وبشكل تلقائي مهيب فور اندلاع العدوان اليهودي الغاشم على الأهالي في القطاع وزحفت هذه الجموع هادرة ملتهبة، وقد تحدت كل المألوف من المواقف، أثبتت فيها بمشاعرها عن أحاسيسها المكبوتة بكل مضامين الظلم والقهر والاستبداد والسخط المثير على الحكام، وأظهرت لفظهم والبراءة من حكمهم وخلع ولاءاتهم لهم، ونعتتهم بغليظ القول وتهم الخيانة والتأكيد على عمالتهم والتآمر مع العدو على الأمة.
وهنا وبعيداً عن التحليل السياسي لهذا الحدث، وهو ما سيكون له مكان آخر، فإن ما أردنا أن نلفت النظر إليه هنا هو إيضاح أمورٍ لا بد من الحديث عنها تتعلق بعناصر محددة لها في هذا الحدث ارتباطات وثيقة بمسائل المسلمين المتعددة، ومنها بخاصة مسألة فلسطين.
أولاً: تحرك الأمة
لقد كان حراك المسلمين في هذا الحدث حراكاً تلقائياً صادراً عن مشاعر الأعماق لديهم، يبين أن هذه الأمة – بالرغم من الأهوال والمصائب التي تعانيها، والقهر الذي تكابده- أنها لا تزال وسوف تبقى بإذن الله تعالى، خير أمة لأن الإسلام الذي حرمت من تطبيقه كاملاً في الحياة، في الوقت الراهن، فإن مفاهيمه لا تزال في الأعماق تسري في عروقها ولا يزال ينبض فيها نبض الحياة، ولهذا فقد انتفضت الأمة كلها في يوم اشتدت فيه الصعاب على أهلها أهل ، انتفاضة رجل واحد وبلغة واحدة ومشاعر واحدة تعبر عن مكنونات هذه الأمة ومكانها، وبالتحديد: الشهادة أو النصر.
ثانياً:عدوان يهود.
إن الأمة -بالرغم من ترديد الإعلام المضلل والمكذوب كثيراً والمزور أكثر عن حقيقة قدوم ودور يهود إلى أرض فلسطين -أرض الأقصى والإسراء- أرض الرباط وحول ما يجري من مؤامرات يشارك فيها الحكام مع يهود، لتوطينهم في بلاد المسلمين والحديث عن حلول وهمية مكذوبة، فإن المعروف أن دول الكفر قد جلبوا يهود إلى أرض فلسطين وهي ثغر من ثغور المسلمين وكان ذلك كجزء من مؤامرة تقسيم هذه الديار إثر فجيعة المسلمين بهدم دولتهم دولة الخلافة العتيدة عام 1924م.
أما عدوانهم الأخير على غزة فهو ليس إلا واحداً من سلسلة من الاعتداءات المستمرة لمسألة فلسطين، تحاك بين حين وآخر وعلى أشكال مختلفة وذلك لإكمال فصول تصفيتها الخبيثة الماكرة.
وقد قام يهود بهذا العدوان في غياب أسيادهم الدول الكافرة أو تغيبهم عن الساحة، استغلالاً للظرف بما يحقق لهم مغنماً سياسياً يعملون له منذ بعض الوقت.
وتدل أحداث العدوان المذكور الفنية والعسكرية على أن يهود لا تختلف أجيالهم ولا مواقعهم عن حقيقة عنصرهم الخبيث الذي وصفهم الله به بأن يعيشوا خاسئين وقد فرضت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، وأنه لولا حبل من الله وحبل من الناس لما اكتمل لهم عيش.
وتشهد عليهم أمثلة التاريخ لغدرهم وخيانتهم ونكثهم للعهود، وأنهم يعلمون علم اليقين أن مجرد لقاء المسلمين لهم في حرب حقيقية سوف لا تبقي منهم شيئاً ولا تذر، ولكنهم قوم مكابرون.
ثالثاً: الحكام العملاء في بلاد المسلمين:
لقد كان هذا العنصر البغيض، من أشد عناصر البلاء أذى على هذه الأمة إذ ما فتئ الواحد من هؤلاء العملاء النواطير يسعى لخدمة أسياده الكفار الذين صنعوهم لإنفاذ أي أمر من أمورهم، وسواء أكانوا فرادى أو جماعة، فقد قاموا بالعمل على بناء كيان يهود وبذلوا بما استطاعوا لمواصلة إسناد هذا الكيان والحفاظ عليه من غضب المسلمين، والحيلولة دون مسه بسوء, وكان هؤلاء العملاء المنفذون لكل مؤامرات دول الكفر لتنفيذ ما يسمى بمعاهدات السلام ومسلسلات الحلول الوهمية الأخرى واتفاقيات الخيانة والمفاوضات الخاوية التي لا عدَّ لها ولا حصر.
أما ما يتعلق بالأحداث الأخيرة من جانب يهود فقد نشروا وبكل وقاحة أنهم قد أبلغوا الحكام في بلاد المسلمين مسبقاً عن رغبتهم أي يهود بضرب غزة وأهلها ومن سوء ما ذكر أن الأخبار قد تناولت هذه المسألة إبان مجريات الأحداث ومن أوضح ما يقال الآن عن ما يدور في دهاليز أركان المفاوضات التي تجرى في القاهرة بين ما يسمى بالفصائل الفلسطينية، ما يدل على وقوف بعض هؤلاء الحكام في سياق هذا التوجه التعيس.
رابعاً: أنه بالرغم من أن دول الصراع الكبرى في العالم الإسلامي تعبث في بلاد المسلمين منذ هدم الخلافة قد حزموا أمرهم على التآمر على المسلمين في كل مصر وفي كل عصر وعلى فلسطين بخاصة، فإنهم قد أيقنوا أن حكام هذه البلاد العملاء يقومون بمهمة النواطير على الوجه الذي رسموه لهم ويرسمونه أسيادهم الكفار وأنهم قادرون على لجم شعوبهم ضد أي تحرك لا يروق للكفر وأهله وأنهم أي الحكام جديرون بطبخ شعوبهم على قدور الديمقراطية الكافرة فوق نار هادئة.
إلا أن هذه الدول الكافرة في هذه الأحداث لم تتوقع أن ينتفض العالم الإسلامي هذه الانتفاضة العارمة الواحدة بمظاهرها الغاضبة الساحقة بشعاراتها السافرة، فأوجست خيفة أن تتحول مشاعرها الغاضبة إلى وعي سياسي ومن ثم فلا تستطيع إيقافه، فتراكضت بينها لإدارة هذا المأزق السياسي الأرعن الذي قام به يهود وإلى تطويقه في مهده والحؤول دون تطوره إلى سياقات لا ينفع معه حينئذٍ أي إجراء.
إن هذا الحدث بالذات، وهذه الانطلاقة التلقائية الجامحة العارمة التي أطلقتها جموع الأمة وكل دواعيها ودوافعها قد أثبتت حقائق لا مجال لإنكارها تعبر عن مشاعر مكونات هذه الأمة، وأنها أي هذه المشاعر إذا اتسقت مع الوعي السياسي المنبثق عن فكرة الإسلام الراقية ستضيف إلى هذه الأمة دواعي ودوافع إلى بذل المزيد من العمل الجاد المكمل لانتفاضتها لبلوغ هدف التحرير الكامل من ربقة الكفر والتخلص الفعلي من الحكام العملاء النواطير وذلك لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولتها دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته