مع القرآن الكريم – حمل الدّعوة: بين الجـهـاد والتّـبـشـير
يقول اللـه تعالى في كتابه الكريم: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وإنّ من أبده البدهيّات عند كلّ مسلم أنّه لم يخلق إلاّ لعبادة اللـه تعالى على شرعة النّبيّ محمّد صلّى اللـه عليه وآله وسلّم، أي على دين الإسلام الّذي لا تقبل أيّ عبادة وأي تقرّب من اللـه إلاّ به إذ يقول سبحانه تبارك وتعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } ويقول أيضا: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }وبما أنّ رسالة الإسلام هي رسالة عالميّة بدليل الآية الكريمة: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا…}
فإنّ من واجب المسلمين، بل من أوجب الواجبات عليهم، حمل الدّعوة وتبليغ الرّسالة إلى كافّة أنحاء الدّنيا لإنقاذ غير المسلمين (الكافرين) من الضّلال والظّلام وإخراجهم إلى الهدى والنّور. يقول اللـه تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.} ويقول أيضا: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.} إنّ شـعوب العالم غير الإسلاميّ لهي أمانة كبيرة وخطيرة في أعناق المسلمين. هذه الشّعوب التّي إن استمرت على ضلالها وكفرها ستلاقي مصيرا مخزيا في الآخرة، هي وذريّتها لأنّها ابتعدت عن ذكر اللـه وعن الإسلام، وستحلّ في الجحيم الأبديّ (نار جهنّم) ما لم يهبّ المسلـمـون لإنقاذهـم وإنقـاذ ذريّـتـهم التّي ستسير على خطاهم في الضّلال والخسران. هذه القضـيّة قضـيّة بديهـيـة ومصيريّة عند كلّ مسـلم، وهـي من معلوم الدّين بالضّـرورة. وهذا هو أحد الأبعاد الإنسانيّة لرسالة الإسلام: إرادة الخير للجميع وإسـعـاد البشر في الآخـرة (وكذلـك في الدّنيا).
والسّؤال الذّي يجب أن يتبادر إلى الأذهان اليوم: ما هو حاضر هذه الدّعوة؟ ما هو الواقع الحاليّ للإنقاذ من النّار؟ وهل يؤدّي المسلمون دورهم في نشر الدّعوة وإنقاذ الأرض من الكفر والضّلال؟ نحن نعلم تماما ما هو ماضي هذا الدّين وما هو مستقبله. لقد ابتدأت عالميّة هذه الدّعوة منذ أيّام النّبيّ صلّى اللـه عليه وآله وسلّم حين صار يرسل الرّسل إلى ملوك العالم يطلب منهم الدّخول فـي الإسلام لإنقـاذ أنفسهم وإنقاذ شعوبهم من الخسارة الأبديّة المحتّمة، وتابع النّبيّ صلّى اللـه عليه وآله وسلّم سعيه ببعث الجيوش الفاتحة إلى بلاد الرّوم، واستمرّ تدفّق هذه الجيوش أيضا في عهد الصّحابة الكرام الّذين أكملوا ما بدأه النّبيّ صلّى اللـه عليه وآله وسلّم وما أوصاهم به، واستمرّ انتشار هذا الدّين بين كافّة الشّعوب التي كانت جيوش المسلمين تدخلها.
وقد كانت الإحصاءات الّتي وصلتنا عبر التّاريخ تشير إلى أنّ شّعوب البلاد المفتوحة كانت تعتنق الإسلام بشكل جماعيّ واسع، واستطاع الصّحابة الكرام رضوان اللـه تعالى عليهم في تلك الفترة أن يسجّلوا أرقاما مذهلة من «النّاجين من النّار» في فترة زمنيّة قصيرة جدّا واستمرّ الحال على ما هو عليه بهذا الشّكل أي تسارع غريب بمعدل اعتناق الإسلام كلّما قام المسلمون بفتوحات جديدة. هذا هو الماضي المشرّف لهذه الدّعوة. أمّا مستقبل هذه الدّعوة فإنّنا لا نملك عنه شيئا حسّيّا، ولكنّنا نعرف تماما أنّ هذا الدّين سيصل إلى كلّ البشر، وهذا بالضّبط ما وعدنا به الرّسول صلّى اللـه عليه وآله وسلّم حين قال:«ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ اللّيل والنّهار، ولا يترك بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله اللـه هذا الدّين، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزّا يعزّ اللـه به الإسلام، وذلاّ يذلّ به الكفر». وهو كائن بإذن اللـه. ونعرف أيضا تمام المعرفة أنّ الطّرح الإسلاميّ هو أقوى الطّروحات والمبادئ وأكثرها تكاملا، ونعرف أيضا أنّ باقي الطّروحات سهلة الانهيار أمام الفكرة الإسلاميّة، ولذلك فإنّ انتصار هذا الدّين في النّهاية أمر متوقّع وكائن لا محالة.
هذا باختصار ماضي ومستقبل هذه الدّعوة الإسلاميّة. أمّا حاضر هذه الدّعوة فهو واقع خجول جدّا بتزايد عدد معتنقي الإسلام من غير المسلمين. وهو لا يزيد عن حالات فرديّة من بعض الباحثين عـن الحقيقة، وهذا التّزايد البسيط لا يقارن أبدا بما كان عليه تزايد المسلمين في زمن الصّحابة الكرام في المدينة وفي زمن وجود دولة الخلافة الإسلاميّة بعد عصر الصّحابة الكرام. والسّؤال لماذا ضعف الإقبال على نظريّة الإسلام الّتي هي أقوى النّظريّات المقنعة للعقل والمطمئنة للنّفس؟
الجواب: لأنّ النّاس مفطورة على الإيمان بالمادّيّات ولو كانت هذه المادّيّات خاطئة، ومفطورة أيضا على عدم الإيمان بالنّظريّات غير المطبّقة مهما كانت هذه النّظريّات صحيحة وقويّة، باستثناء فئة قليلة من الّذين يعملون عقولهم ويؤمنون بالنّظريّات الصّحيحة غير المطبّقة. ولهذا كنّا نرى إقبال النّاس على الإسلام في زمن التّمثيل الحيّ للإسلام (أي في زمن دولة الخلافة الإسلاميّة) إقبالا أكبر من إقبالهم عليه في زمن غياب الإسلام المادّيّ عن الحياة. وهذه حال كلّ النّظريّات الصّحيحة أو الفاسدة.
ولمعالجة هذه المشكلة – أي قلّة الوافدين إلى هذا الدّين – ظـهرت طروحات معاصـرة معظـمها نتج عن فهم غير صحيح لطبيعة المجتمعات الإنسانيّة، وفهم عقيم لواقع الطّريقة الشّرعيّة بنشر المبدأ، ولواقع عدم إيمان المجتمعات إلاّ بما هو مطبّق ولو كان خاطئا، وحتّى فهم خاطئ لواقع فكرة الإسلام. فقد ارتأى بعضهم الاكتفاء بطريقة الحوار (حوار الأديان)، كما ارتأى بعض آخر الاكتفاء بالتبشير كبديل من الجهاد.
ومتبنّو فكرة الحوار (حوار الأديـان) ارتكبوا الكثير من الأخطاء الشّرعيّة الفادحة. فَهُمْ أولاً اكتفوْا بالحوار لنشر الإسـلام وأسـقطوا فكرة الجهاد. الحوار مطلوب وهو يسبق القتال، ولكنه غالباً لا يكفي، ولا بد من القتال. وهُمْ ثانياً ساووا بين الإسلام وغيره من الأديان الفاسدة، وقالوا ليس يضير المرء أن يكون مسلما أو نصرانيّا أو يهوديّا المهمّ أن يعبد اللـه. واستدلّوا لتدعيم رأيهم بقول الشّاعر (إن هو إلاّ قول شاعر):
لَـعَـمْـرُكَ مـا الأديـانُ إلاّ نوافِـذٌ *** تَرى اللّـهَ منهـا مُقْـلَـةُ المـتَـعَـبِّـدِ
فَأَلمْسُ في القرآنِ عيسَى بنَ مريمٍ *** وأَلمْـحُ في الإِنجـيلِ رُوحَ مُـحَـمَّـدِ
وهـذه الفكرة التّي نشتمّ منها رائحة الكفر، ناتجة عن الفهم الخاطئ المتعمّد للآية الكريمة: { وجادلهم بالّتي هي أحسن } والآية تشير إلى ضرورة استعمال اللـهجة اللّيّنة في مخاطبة من يرجى إسلامه وليست تعني أبدا إقرار الكافر علـى كفـره. وفكرة حوار الأديان تتناقض مع فكرة أنّ غير المسلم سيدخل النّار في الآخرة، لأنّها تطلب من غير المسلم أن يبقى على كفره. فهل فعلا يريد المحاورون الخير للكفّار؟ وهل فعلا يريدون لهم النّجاة من النّار؟! وهل هم أصلا مقتنعون بأنّ الإسلام هو الدّين الوحيد المنجي من النّار؟
أمّا الطّريقة الثّانية البديلة عن طريقة الجهاد، فهي طريقة التّبشير الإسلاميّ على غرار طريقة التّبشير النّصرانيّ. وهذه الطّريقة أيضا فيها مخالفة لطريقة الإسلام وللكثير من المفاهيم التّي أتت بها الأحاديث الشريفة، وفيها أيضا مخالفة لنهج الصّحابة الكرام في نشـر الدّعوة. فمصطلح «الخروج في سبيل اللـه» لم يَعْنِ في يوم من الأيّام أو في حديث من الأحاديث أو آية من الآيات إلاّ الخروج إلى الجهاد والقتال وليس كما يدّعي البعض الخروج إلى التّبشـير والتّذكير. فالآية الكريمة: { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي.} لم تعن من الخروج إلاّ الخروج جهادا وقتالا في سبيل اللـه.
والّذين تبنّوا هذه الطّريقة (أي طريقة التّبشير) أخطأوا الخطـأ الذريع في فهم طبـيـعـة المجتمعات. فهم ينظرون نظرة رأسماليّة إلى المجتمعات على أنّها مجموعات من الأفراد. وقالوا: «أصلح الفرد يصلح المجتمع» فإذا أصلح الفرد نفسه ثمّ أصلح أهله ونقل عدوى الإصلاح إلى جاره وأصدقائه وهؤلاء نقلوا الصّلاح إلى غيرهم سيصلح المجتمع. وحقيقة فإنّ نظرتهم السّطحيّة هذه إلى المجتمعات نظرها الرّأسماليّون قبلهم، وقد أورد الرّأسماليّون هذا التّعريف للمجتمع من قبل في دساتيرهم الرّأسماليّة وكتبهم الفكريّة. ونشدّد هنا على خطأ هذه النّظرة فالمجتمعات ليست مجموعات من الأفراد فحسب بل هي مـجموعات من الأفراد تحكمهم مشاعر وأنظمة وأفكار أي أفراد تحكمهم علاقات دائمة. فإذا أردنا أن نصلح المجتمع فعلينا بإصلاح الأفكار والأنظمة أي العلاقات الدائمة بين أفراد المجتمع، ومن الأقوال الصحيحة في هذا الموضوع: «إصلاح المجتمع يصلح الفرد» و«إصلاح الرّاعي يُصلح الرّعيّة.» و«النّاس على دين ملوكهم.» وغيرها من الأقوال التي ترسّـخ مفهوم أنّ إصـلاح المجتمع إنّما يتأتّى من إصلاح أنظمته وأفكاره. والخلاصة أنّ الأدلّة العقليّة والنّقليّة تكاتفت لإثبات فشل طريقتي التّبشير الإسلاميّ والحوار.
ثمّ يأتي الحديث الشّـريف:«أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللـه وأنّ محمّدا رسول اللـه ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة.» والحديث الآخر:«بعثت بين يدي السّاعة بالسّيف حتّى يعبد اللـه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي، وجعل الصّغار على من خالف أمري.» ليكونا صفعة بوجه المبشّرين والمحاورين الإسـلاميّـين الذين يسقـطـون الجهاد من حسابهم لأنّه وبكلّ صراحة يعلن أنّ الجهاد هو الطّريقة المثلى لنشر الإسلام، ويأتي حديث «الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل.» ليعلن أنّ زمن الجهـاد لم ينـتـه كما يزعم بعضهم، وأنّ الجهاد ليس حربا دفاعيّة تنتهي بزوال دولة إسرائيل أو بتوقيع الصّلح معها.
ويأتي الرّبط القرآنيّ الرّائع في سورة النّصر: { إذا جاء نصر اللـه والفتح، ورأيت النّاس يدخلون في دين اللـه أفواجا.} ليرسّخ هذا المفهوم وليقول لنا: إذا أردتم أن تدخـل الشّعوب أفـواجـا فـي ديـن اللـه فعـليكم بالجهاد والفتح، ومن ثمّ تأتي الآية الكريمة: { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.} لتصفع كلّ من يدعو إلى ما يسمّى بالتّعايش الوطنيّ والتّسامح الدينيّ وترك القتال.
والسّؤال الّذي يطرح نفسـه هنا لماذا كثـرت الآيات وتواترت الأحاديث الّتي تذكر الجهاد والقتال والحكم والفتح والنّصر؟ الجواب: إنّ كثرة هذه الآيات والأحاديث إذا سلّمنا بأنّ الجهاد حربٌ دفاعيّة لا يكون إلاّ عبثا من اللـه ورسوله والعياذ باللـه. إنّما هذه الأحاديث والآيات كان الهدف منها ترسيخ فكرة الجهاد وتطبيق الإسلام الحيّ بأنّه الطّريق المثلى لنشر مبدأ الإسلام. وليت شعري، كيف ينظر المحاورون والمبشّرون إلى الوعـود الّتي قطعها لنا رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم بأنّ هذا الدّين سينتصر وسينتشر في كل أصقاع الدّنيا وأنّ المستقبل لهذا الدّين؟؟ هل ينظرون إليها كأحلام وأوهام؟ أو ينظرون إليها كمستقبل وواقع آت لا محالة؟
من كلّ هذا نستخلص أنّ جميع الدّلالات العقليّة والشّرعيّة تشير إلى أنّ الدّعوة لن تنتشر في العالم إلاّ إذا تهيّأت لها دولة تطبّق الإسلام وتحمله بالحجة والجهاد إلى كافّـة أنحاء المعـمـورة. وهذه الدّولة هي دولة الخلافة القادمة قريبا إن شاء اللـه تعالى تحقيقا لقول الرّسول صلّى اللـه عليه وآله وسلّم: ( ثمّ تكون خلافة على منهاج النّبوّة ) .