مع القرآن الكريم هل يحمل المخون من وزر الخائن شيئاً
إن من المقطوع به أن الوزر يحمله صاحبه قال تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فهل يُنسَب المخون والمغدور به إلى الغفلة والى سهولة تمرير الخديعة عليه؟ والجواب بالنفي كذلك إذا لم تتكرر الخيانة والخديعة وتكثر، فإذا كانت قليلة فأمر طبيعي يمكن أن يحدث مع الصالحين والدهاة والحازمين ما لم يكن أحدهم معصوماً بالوحي، وهذا لا يكون إلا للأنبياء، وحتى الأنبياء المعصومون فإنهم يصدق عليهم ما يصدق على غيرهم من البشر إذا لم يُوحِ الله لهم شيئاً بشأن الغدر أو الخيانة. والدليل على هذا ما يلي: |
قوله تعالى في سورة التحريم: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) وليس المقصود بخيانتهما أنهما زنتا بل المقصود أن امرأة نوح كانت على غير دينه وكانت تقول عنه إنه مجنون وتطلع الجبابرة على من يؤمن معه، وأما امرأة لوط فكانت أيضاً على غير دينه وتخبر أهل المدينة ممن يعمل السوء عن أضيافه. ولم نعلم أن أحداً جعل عليهما صلى الله عليهما وسلم شيئاً من المؤاخذة البتة.
وهذا رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قدم عليه رهط من عضل والقارة فقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفراً ستة من أصحابه… حتى إذا كانوا على الرجيع (ماءٍ لهذيل بناحيه الحجاز على صدور الهدأه) غدروا بهم…
وأخرى في غزوة بني قريظة بعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث الينا أبا لبابه بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس لنستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرقّ لهم، وقالوا له يا أبا لبابه أترى أن ننزل على حكم محمد قال: نعم وأشار بيده الى حلقه، إنه الذبح. قال أبو لبابه فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق أبو لبابه على وجهه ولم يأتِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد الى عمود من عمده، وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله: ان لا أطأ بني قريظة أبداً ولا أُرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً. وأنزل الله تعالى في أبي لبابه فيما قال سفيان بن عيينه عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي قتادة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ثم نزل في توبته قوله عز وجل: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وثالثه لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً الى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم… فأنزل الله تعالى في حاطب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) إلى قوله تعالى:(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
ورابعه أن عبد الله بن سعد كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فارتد مشركاً راجعاً إلى قريش… ولا يحل لأحد أن يقول في هذا المقام إلا ما يليق بمقامه صلى الله عليه وآله وسلم وعصمته.
وأما غير الأنبياء فسأورد حادثتين من تاريخ الطبري مع خير الناس بعد الأنبياء أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال الطبري: كان من حديث الجواء وناعر أن الفجاءة إياس بن عبد يا ليل قدم على أبي بكر فقال: أعنّي بسلاح ومرني بمن شئت من أهل الردة فأعطاه سلاحاً وأمره أمره، فخالف أمره الى المسلمين فخرج حتى ينزل بالجواء، وبعث نجبة بن الميثاء من بني الشريد وأمره بالمسلمين، فشنها غارة على كل مسلم في سليم وعامر وهوازن، وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بن حاجز يأمره أن يجمع له وأن يسير اليه، وبعث إليه عبد الله بن قيس الجاسني عوناً ففعل، ثم نهضا إليه وطلباه، فجعل يلوذ منهما حتى لقياه على الجواء فاقتتلوا فقتل نجبة وهرب الفجاءة، فلحقه طريفة فأسره، ثم بعث به الى أبي بكر، فقدم به على أبي بكر، فأمر فأوقد له ناراً في مصلى المدينة على حطب كثير ثم رمى به فيها مقموطاً. وأما عمر رضي الله عنه الذي اشتهر عنه قوله “لست خباً ولا الخب يخدعني” فقد روى الطبري حادثة الهرمزان وهي معروفة والذي يهمنا منها قول عمر: “خدعتني والله لا انخدع إلا لمسلم فأسلم” وفي رواية “خدعتني إن للمخدوع في الحرب حكمه لا والله لا أؤمنك حتى تسلم”.
من كل هذا يمكن القول إن الغدر والخديعة والخيانة يمكن أن تمر على أحزم الأمراء، ولا يعتبر هذا نقيصة في حقه. هذا فيما أظن هو الحق ومن عرف الحق عرف الرجال .