مع الحديث الشريف إحسان العمل
عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ رواه البخاري
جاء عند الإمام ابن حجر في فتحه بتصرف يسير “قَالَ النَّوَوِيّ: النِّيَّةُ الْقَصْدُ, وَهِيَ عَزِيمَةُ الْقَلْب. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: النِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ اِنْبِعَاثِ الْقَلْبِ نَحْوَ مَا يَرَاهُ مُوَافِقًا لِغَرَضٍ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ حَالًا أَوْ مَآلًا, وَالشَّرْعُ خَصَّصَهُ بِالْإِرَادَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ نَحْوَ الْفِعْلِ لِابْتِغَاءِ رِضَاءِ اللَّهِ وَامْتِثَالِ حُكْمِهِ. وَالنِّيَّةُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِيَحْسُنَ تَطْبِيقُهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَتَقْسِيمُهُ أَحْوَالَ الْمُهَاجِر. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : فِيهِ تَحْقِيقٌ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَال…وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَمَلِ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ مُنْتَفِيًا إِذَا خَلَا عَنْ النِّيَّةِ, وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ فِعْلِ الشَّيْءِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْحُكْم.”
مستمعينا الكرام: حتى يكون العمل حسنا لا بد فيه من إخلاص القصد لله، وأن يكون موافقا للشرع، ولهذا كان أئمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الأصلين كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال: أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وعن سعيد بن جبير قال: “لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة”. وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه “اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا”. والعبرة بإحسان العمل لا بكثرته ولذلك قال تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، ولم يقل ليبلوكم أيكم أكثر عملا، وقد ورد عن مالك بن دينار قوله “قولوا لمن لم يكن صادقا ( في عمله) لا تتعب”. ومن هنا يجب مراعاة الإخلاص وحسن النيات في جميع الأعمال، وكانت صحة الأعمال وقبولها عند رب العالمين بالنية. ولذلك لم يكن أمرا مستغربا أن يعتبر العلماء حديث “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى” أحد ثلاثة أحاديث عليها مدار الإسلام. وكان المتقدمون من علماء السلف يستحبون تقديم حديث الأعمال بالنية أمام كل شيء ينشأ من أمور الدين لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها.
وما أجمل قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو يشير إلى عاقبة الإخلاص لله تعالى “فإنما قدر عون الله للعباد على قدر النيات، فمن تمت نيته تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر عون الله له”.
ومن علامات الإخلاص الخضوع للحق وقبول النصح ولو ممن كان دونه في المنزلة، فلا يضيق صدره كيف ظهر الحق مع غيره، حكى الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة عبيد الله بن الحسن العنبري وهو أحد سادات أهل البصرة وعلمائها وكان قاضيها، قال عبد الرحمن بن مهدي تلميذه: كنا في جنازة فسئل عن مسألة، فغلط فيها، فقلت له: أصلحك الله، القول فيها كذا وكذا، فأطرق ساعة فقال: إذن أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنبا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسا في الباطل، رحمه الله.
ومن علامات الإخلاص أن لا يكون جريئا في الفتوى وإعطاء الأحكام، ولذلك كان الكثير من السلف الصالح يتحرز من الفتوى ويتمنى أنه لم يسأل، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: “أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول”، والذي يحب أن يتصدر المجالس ويسأل ليس أهلا أن يسأل كما أفاد بذلك بشر بن الحارث رحمه الله. وكان الواحد من كبار العلماء لا يخجل من قوله: لا أدري، سئل الشعبي يوما عن شيء فقال: لا أدري، فقيل له: أما تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراقين قال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا).