نفحات إيمانية – من ثمار الصوم – أبو إبراهيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقـبة للمتــقين، ولا عدوان إلا على الظـالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه أجمعين، ومن تـبـعه وسار على دربـه، واهـتـدى بـهديـه، واسـتن بـسـنــته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، واجعـلنـا معهم، واحشرنـا في زمرتهـم برحمـتـك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183.
إخوة الإيمان والإسلام: خــاطـب الله المؤمنين بالنــداء المحبـب إلى نــفـوسهم فـقـال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ…} البقرة183، ما أروعه من نداء!! إنـه يذكـر المؤمنين بإيمانهم بربـهم تذكيرا يدفعهم إلى طـاعة الله وامتثال أمره!! ثم قال: {… كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ …} البقرة183، وذلك بصيغة الفعل الذي لـم يسم فاعلـه حيث استخدم الفعل ((كــتب)) ولـم يسـتخدم الفعل ((كـتـب)) المبني للمعلـوم ، الذي يذكـر فـاعلـه معه، فـلـم يقــل سبحانـه وتعالى: ((كـتـب الله عليكـم الصيام)) بـل قال: {…كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ …} البقرة183، وذلك تــنزيها لله سبحانـه وتعالى، لأن الصيام فيه جهد، ومشقـة وتعب، لا يـليق أن يــقرن باسم الله جـل في علاه، كما يرشدنـا ويوجهـنا الأدب العالي المستنبط من القـرآن الكريم.
ثم قـال: {… كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ…} البقرة183، وفي هذا دلالـة على أن الأمة الإسلامية، ليست بـدعا من الأمم، وتكليفـها بالصيام ، ليس لها وحدها، إنما كان مـفروضا عـلى الأمم السابقة فصاموا، فلا تـكـونـوا أقــل منهم حظــا، وأنتـم خـير الأمم، ونبيـكـم محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء جميعا.
وأخيرا قال: {…. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } البقرة183 وفي هذا بيان للحكمة من الصيام، والأثر الذي ينبغي أن يحدثـه الصيام في نـفوس المؤمنين.
إن التــقوى هي ثمرة من ثمار الصوم، كما نطقـت بذلك الآية الكريمة، ولكن إخوة الإسلام يبرز هنا سؤالان يقـولان:
ما معنـى التــقوى؟ وما الثــمار المرجوة منها؟
إخوة الإيمان والإسلام: للإجابة عن هذين السؤالين نـقـول:
إن التــقوى هي طاعة الله بتنفيذ أوامـره، واجتناب نواهيه في كــل لحظة من لحظات حياتنا، فتقوى العبد لربه تعـني أن يجعـل بينـه وبين ما يخشاه من ربه، من غـضب أو سخـط أو عقاب، وقايـة تــقـيه من ذلك، وهذه الوقاية والحماية تكـون كما أسـلفنـا في امتثال طاعـته واجتناب نــواهيه ومعاصيه.
لقد عرف أحد العـلماء التــقوى فقال: (( التــقوى هي أن يجـدك الله حيث أمرك، وأن يفـتـقـدك حيث نـهاك)) بمعنـى أن الله أمرك بالصلاة، فينبغي أن يجـدك مع المصلـين…أمرك بالجهاد وحمـل الدعوة، فينبغي أن يجـدك مع المجاهدين وحمـلة الدعوة… ونـهاك عن الربا، فينبغي أن لا تكـون مع المرابين، ونـهاك عن التـجسس، فينبغي أن لا تكـون مع المتجسسين.
وعرفها ثانٍ فقـال: ((التــقوى هي الرضا بالقليل، والعمـل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والاستعداد ليوم الرحيل )).
وعرفها ثالث فقال: ((التــقوى أن تعمـل بطاعة الله، على نـور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله)).
هذه هي التــقوى، فما الثــمار المرجوة منها؟
إخوة الإيمان: إن أعظم ثمرة للتــقوى هي نـوال رضوان الله تبارك وتعالى، ورضوان الله هو الغـاية التي يطمح إليها كــل مؤمن، بل هو غاية الغـايات جميعا، فإذا كسب المؤمن رضا الله كسب كــل شيء، وإذا خـسر رضا الله ــ لا سمح الله ــ خسر كــل شيء، لذا كانت التــقوى خـير زاد كما وصـفها الله تبارك وتعالى، وكان أهل التــقوى هـم أولـوا الألباب، أي هـم أصحاب العـقول النيرة، قال تعالى: {…وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }البقرة197
وثمرة أخرى للتــقوى يذكرها لنـا الله في كتابه، قال تعالى: {…وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }البقرة282. إنـما العلم بالتـعلم هذا قول صحيح ولكن تـقوى الله سبحانه وتعالى تـساعد المرء في اكتساب العلم.
ذكر في الأثــر أن الإمام الشـافعي، وقعت منه معصية من اللـمم، أي من صغائر الذنوب، وحاول بعدها أن يحـفظ بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستـطع، فشكا ذلك إلى أستاذه، فأرشده الأستاذ إلى ترك المعاصي، أي أرشده إلى تقوى الله، فأنشد يقول:
شكـوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى تـرك المعاصي
وأرشدني إلى أن علـم الله نـور ونــور الله لا يهــدى لعـاصي
وثمرة ثالثة للتــقوى يذكرها لنـا الله في كتابه، قال تعالى {…وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ….(3)} الطلاق.
إن تقوى الله تــنـجي المؤمن وتـخرجه من المحـنـة التي هو فيها، وتجلب لـه الرزق، ها هو سيدنا يونس عليه وعلى نبيـنا الصلاة والسلام يلتقمه الحوت ويبتلعه حتـى يصبح في بطنه، فما الذي أخرجه من هذه المحنـة؟ إنها تقوى الله سبحانـه، إنه التـسبيح، لـم يغفــل عن ذكر الله عز وجـل حتـى وهو في بطن الحوت، وقـد قال الله تعالى في شأنه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} الصافات.
إخوة الإيمان: وهذه ثمرة رابعة من ثمار التــقوى يذكـرها لنـا الله في كتابه، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ…} الأعراف96. إن تـقوى الله تـجـلب الرزق، وتجعـل السماء تـمطر ماء غدقا، وتجعـل الأرض تـخرج ما فيها من خيرات. يعم نفعها، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً(12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13)} نوح .
وثمرة خامسة من ثمار التــقوى يذكـرها لنـا الله في كتابه، قال تعالى {…. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ..}. إن تقوى الله تجعـل صاحبها مـكرما عند الله، وهي مقياس التــفاضـل بين النـاس فلم يقــل الله سبحانه وتعالى: إن أكرمكـم عند الله أغنـاكـم أو أكثركـم جاها أو زعامة أو سـلطانا إنـما قال: {…. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ … }الحجرات13. قال عليه الصلاة والسلام مؤكـدا هذا المعنى:
أنـــا جــــد كــل تـقــي ، ولـو كـان عــبــــدا حبشـــيــا !
وأنـــا عــدو كــل شـقـي ، ولـو كـان هاشمـيـا قـرشــــيـا!
وثمرة سادسة من ثمار التــقوى يذكـرها لنـا الله في كتابه، قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }الأنفال29. إن الأتقياء هم الذين يـفيض الله عـليهم من نـوره، فـيدركـون الحق، ويبصرون الصواب، ويميزون بين ما يجـب فعلـه من الخـير ، وما يجـب تـركـه من الشر، كـما أن تـقوى الله هي سبب في تـكفير السيـئات، وغــفران الذنـوب، وهذا هو معنى قوله تعالى: {… يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً … } الأنفال29.
إخوة الإيمان: هذه هي الثـمار الستـة المرجوة من تـقوى الله، استخلصنا ها لكـم من كتاب الله، ومن سنـة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي على سبـيل المثال لا الحصر، فالقـرآن الكـريم غـني بـالآيات التي تـتـحدث عن التــقوى، والتي تـبين عاقبة المتــقين عند ربهـم، ولن يستـطيع خـطيب مهما أوتي من الفـصاحة أن يحصرها في خـطبة واحدة.
إخوة الإيمان: ليست التــقوى مجرد كـلمة تــقال، إنما لها واقع عملي طبـقـه رسولـنا عليه الصلاة والسلام، وطبـقـه من بعده أجدادنا الصحابة رضوان الله عليهـم أجمعين، فـفـازوا بـخـيري الدنيا والآخرة وسعدوا بــرضوان الله جل في علاه، وهزموا أكبر دولـتـين في ذلك الزمان ، هزموا إمبراطوريتي الفـرس والروم، ونـشروا الإسلام في ربوع العالـم ، فـكانـوا بـحق خـير أمـة أخـرجت للنـاس، وكـانوا هم المؤمنـون حقـــا كـما وصفـهم الله في كتابـه، حيث قال: {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }الأنفال4.
وختامـــا إخوة الإيمان: نسأل الله عز وجل، في هذا اليوم المبارك من أيام شهر رمضان الفضيل، أن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة، وأن يجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه،
والسلام عليكـم ورحمة الله تعالى وبركاته
أبو إبراهيم