نفحات إيمانية – فتح مكة – أبو إبراهيم
الحمد لله الذي فـتح أبواب الجـنـان لعباده الصائمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسـلين، المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه الطيـبين الطـاهرين، ومن تبـعه وسار على دربه، واهتدى بهديه واستـن بسنــته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أمـا بعد:
إخوة الإيمان:
كانت قبيلتا خزاعة وبني بكر في عداء مستمر في الجاهلية. وبعد أن تم توقيع عهد الحديبية بين الرسول عليه السلام وبين قريش، دخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش.
وقد حدث أن وقف ذات يوم رجل من بني بكر يتغنى بهجاء الرسول صلى الله عليه وسلم على مسمع رجل خزاعي، فقام هذا وضربه فحرك ذلك كامن الأحقاد، وتذكر بنو بكر ثأرهم القديم فشدوا على خزاعة غدرا، وأمدتهم قريش بالرجال والسلاح سرا، متناسين عهد الحديبية.
أجل إخوة الإيمان، لقد نقضت قريش صلح الحديبية بتحريضها بني بكر على خزاعة وإمدادها إياهم بالسلاح، حيث خرج (( نوفل بن معاوية الديلي)) في جماعة من بني بكر ومعه جماعة من خيالة من قريش أمثال (( صفوان بن أمية)) و ((عكرمة بن أبي جهل))، و (( مكرز بن حفص)) حتى أتوا خزاعة وهم على ماء لهم بأسفل مكة يدعى ((الوتير))، فانقضوا عليهم في جوف الليل ينزلون بهم الطعن والتقتيل، فلاذوا بالفرار والاحتماء بالبيت الحرام فدخلوا إلى رحابه لكي يكون لهم سبيلا للنجاة، وراحوا ينادون: ((يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم إلهك، إلهك)).
ولكن (( نوفل أبى أن يكف عن قتالهم وقال إنه: ((لا إله له اليوم)).! ودعا بني بكر أن يصيبوا ثأرهم من بني خزاعة.
ولما رأى بنو خزاعة أن أعداء الله لا يأبهون لحرمة بيته، انقلبوا إلى بيت أحد زعمائهم، (( بديل بن ورقاء الخزاعي))، وإلى دار مولى لهم يقال له ((رافع))، فأوعزت قريش لحلفائها بالتوقف عن القتال. وخرج ((عمرو بن سالم الخزاعي)) في الغداة إلى المدينة، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين الناس في المسجد، يخبره بما حدث، ويستنصره على أولئك الذين نقضوا عهده وقتلوا حلفاءه، ومما قاله شعرا:
يا رب إني ناشــد محمـدا حلف أبـينا وأبيـه الأتلـدا
قد كنتم ولـدا وكـنا والـدا ثمت أسلمنا فلـم ننزع يـدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا وادع عبـاد الله يأتـوا مددا
فيهم رسول الله قـد تجـردا إن سيم خسفا وجهـه تربـدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشـا أخلفـوك الموعدا
ونقضـوا ميثاقـك المؤكـدا وجعلـوا في كـداء رصـدا
وزعموا أن لست أدعو أحـدا وهـم أذل وأقــل عــددا
هم بيـتونا بالوتيـر هـجدا وقتــلونا ركــعا وسجـدا
فانصر هداك الله نصرا أيدا
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، وقال: “نصرت يا عمرو بن سالم! والله لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه”. أحست قريش عندما عاد إليها صوابها أنها نقضت صلح الحديبية بما فعلته مع خزاعة فقررت تدارك خطئها، وأرسلت زعيمها أبا سفيان إلى النبي عليه السلام للتشبث بتثبيت العهد وإطالة أمده.
فلما وصل أبو سفيان المدينة المنورة قصد دار ابنته أم حبيبة، زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يجلس على الفراش، فطوته دونه فقال لها: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس، قال أبو سفيان: والله لقد أصابك بعدي شر. وخرج مغضبا، فكلم النبي عليه السلام، فلم يظفر منه بجواب، فرجا وساطة أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة ليشفعوا له عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأبوا جميعا فعاد إلى علي يستنصحه فيما يفعل، بعد أن أغلقت في وجهه منافذ الرجاء، فنصحه علي بالعودة من حيث أتى، فعاد أبو سفيان يجر أذيال الخيبة في سفارته الفاشلة! عند ذاك أيقنت قريش أن الحرب ستعلن لا محالة، وأن عهد الحديبية أصبح حبرا على ورق، ذلك أنها كانت تعرف من النبي قوة العزم إذا أراد، كما كانت تعرف فيه صدق العهد إذا عاهد.
إخوة الإيمان:
ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما قامت به قريش من نقض العهد لا مقابل له إلا فتح مكة. فأمر أصحابه بالاستعداد للحرب، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة، ولم يعلم أحد حتى المقربون وجهة الرسول صلى الله عليه وسلم للحرب، حتى إذا تمت الاستعدادات، ودنا موعد الحركة، أسر الرسول إلى رجاله المقربين بخطته لفتح مكة، وطلب أن توضع العيون والأرصاد، لتحول دون معرفة قريش بمسير المسلمين فيفاجئها مفاجأة تضطر معها قريش إلى التسليم دون قتال، فتتحقق له أمنيته العظمى بدخول مكة من غير سفك دماء، وترعى بذلك حرمتها المقدسة.
واستمع المسلمون لأمر نبيهم فمضوا يعبئون قواهم للقاء المنتظر، وهم مدركون أن الساعة الفاصلة مع أهل مكة قد دنت. وتمت الاستعدادات وتحرك جيش المسلمين في عشرة آلاف مقاتل، فغادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعشر خلون من شهر رمضان المبارك سنة ثمان للهجرة متوجها نحو مكة في عدد وعدة لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل. ومع كثافة هذا الجيش وقوته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتوما لا تعرف عنه قريش شيئا.
نكتفي إخوة الإيمان بهذا القدر على أن نتابع معكم أحداث فتح مكة في لقائنا القادم معكم إن شاء الله تعالى، سائلا الله عز وجل، في هذا اليوم المبارك من أيام شهر رمضان الفضيل، أن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة، وأن يجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكـم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أبو إبراهيم