نفحات إيمانية – شهر رمضان شهر الفتوحات والانتصارات – معركة عين جالوت – أبو إبراهيم
الحمد لله الذي فـتح أبواب الجـنـان لعباده الصائمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسـلين، المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه الطيـبين الطـاهرين، ومن تبـعه وسار على دربه واهتدى بهديه واستـن بسنــته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أمـا بعد:
إخوة الإيمان:
معركة عين جالوت من المعارك التي حدثت في شهر رمضان وتحديدا في يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان سنة 658هـ وقد شاءت الأقدار أن تجعل معركة تحرير بلاد المسلمين من خطر التتار على أرض فلسطين التي سبق أن خلد على ترابها السلطان ((صلاح الدين الأيوبي)) انتصاراته الرائعة على الصليبيين.
وذلك أن (( قطز)) سلطان مصر استمر على خطته التي تستهدف المبادرة بالهجوم على التتار الذين عاثوا في أرض الشام خرابا وتدميرا، فأمر قائده الباسل (( ركن الدين بيبرس)) أن يتابع إغاراته الجريئة على قوات التتار المبعثرة في سائر أنحاء البلاد، وأن يتصدى لطلائعهم التي دأبت على إثارة الفزع والرعب في نفوس الأهالي، وأثبت (( بيبرس)) مهارة فائقة في مناوشة التتار، حتى اختبر قوتهم، ومواضع تجمعاتهم، وصار على علم بكل تحركاتهم!
وبعث (( بيبرس)) بتقاريره إلى (( قطز)) الذي تابع السير حتى انضم إلى (( بيبرس)) عند (( عين جالوت)) بين (( بيسان)) و (( جنين)) بفلسطين.
ونظم (( قطز)) القوات المصرية الشامية عند هذا الموقع الجديد، وجعلها على أهبة الاستعداد لقتال التتار، ثم أمر بعقد مؤتمر حربي، حضره رؤساء الفرق الحربية، لرسم خطة المعركة، فحضهم على القتال، وذكرهم بما أوقعه التتار بالمسلمين من القتل والسبي والحريق، وخوفهم من وقوع مثل ذلك، وحثهم على استنقاذ الشام من التتار، ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذرهم عقوبة الله.
وقد كان خطاب (( قطز)) مؤثرا حتى إن الأمراء ورؤساء الفرق الحربية أجهشوا بالبكاء، وأقسموا أغلظ الأيمان على التضحية والجهاد.
واستعد (( كتبغا)) نائب ((هولاكو)) في الشامية، عندما بلغه زحف القوات المصرية الشامية، فأصدر أمره بجمع جند التتار المتفرقين في سائر أنحاء البلاد، وتنظيم صفوفهم عند ((عين جالوت)).
وفي يوم الجمعة، الخامس عشر من رمضان سنة ستمائة وثمان وخمسين هجرية، التقت مقدمة قوات المسلمين بطلائع التتار، وأنزلت بهم هزيمة فادحة!
وفي صبيحة اليوم التالي استطاع التتار أن يعيدوا تنظيم صفوفهم، واحتلوا المنطقة الجبلية من مسرح القتال، ليسيطروا على الميدان، حتى صار منظرهم يبعث على الرهبة في النفوس، ولا سيما أنهم كانوا متحفزين للانتقام، والدخول في معركة حاسمة. وزاد في خطورة الموقف الذعر الذي ساد أهل القرى المجاورة، والضوضاء التي امتلأ بها وادي ((عين جالوت)).
إخوة الإيمان:
قال صلى الله عليه وسلم: “إنما الإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه”. فعندما اصطدم العسكران، أظهر السلطان (( قطز)) مهارة وشجاعة نادرة في القتال. ورفع روح الجند المعنوية، فاشترك بنفسه في المعركة، وحدث أن جواده أصيب بسهم أرداه. فنزل (( قطز)) من على جواده، وصار يحارب على قدميه. ورآه أحد الأمراء الأبطال، فترجـل عن جواده وقدمه له، فامتنع (( قطز)) من ركوبه وقال له: ” ما كنت لأمنع المسلمين من الانتفاع بك في هذا الوقت!” وظل (( قطز)) يحارب على قدميه، حتى جاءه أتباعه بجواد آخر!
ولما اشتد القتال، ألقى (( قطز)) خوذته على الأرض، وصاح بأعلى صوته: وآ إسلاماه! وحمل بنفسه على التتار، فازداد نشاط جند المسلمين وهجموا على التتار في عنف، حتى إن قائدهم الأعلى (( كتبغا)) خر قتيلا! وكان ذلك إيذانا بانهيار معنوية التتار، واضطراب صفوفهم، ذلك أن (( كتبغا)) كان خير قوادهم الحربيين، يعتمدون على رأيه وشجاعته وتدبيره، وهو الذي احتل بلاد فارس والعراق، وكان (( هولاكو)) ملك التتار يثق به، ولا يخالفه فيما يشير به.
إخوة الإيمان:
وذهل التتار من هذا القتل الذي حل بهم، وأرادت البقية الباقية من شجعانهم أن تستأنف الحرب، فجمعت صفوفها مرة أخرى، وهجمت على قوات المسلمين بشدة وعنف، حتى صار القتال أشبه بالزلزال، من تقارع السيوف وآلات الحرب.
وهنا صاح (( قطز)) مرة أخرى أثناء القتال: وآ إسلاماه! ثلاث مرات تشجيعا لجنده، ودلالة على اشتراكه بنفسه في الحرب، كما أخذ يردد: ” يا الله، انصر عبدك قطز على التتار”!
وكأنما استجاب الله لهذا النداء، فحلت بالتتار هزيمة نكراء، قضت على معظم فرسانهم وشجعانهم. وعندئذ نزل (( قطز)) عن جواده، ومرغ وجهه بالأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكرا لله تعالى.
إخوة الإيمان:
وبلغت أنباء هذا النصر بلاد الشام بعد يومين من المعركة، فأخذ أهلها يهتفون ويرددون أناشيد الفوز والسرور، وفر عملاء التتار ونوابهم من المدينة، بعد أن سيطروا عليها سبعة أشهر وعشرة أيام.
ثم ازدادت جرأة الأهالي وحماستهم، وهجموا على ممتلكات التتار، كما أنزلوا العقاب القاسي بكل من سقط في أيديهم من الخونة.
إخوة الإيمان:
وتابع السلطان (( قطز)) السير إلى (( دمشق))، ولما وصل (( طبرية)) بعث إلى سلطان الشام يخبره بما ناله من نصر، ويحث الأهالي على التمسك بالنظام، وتجنب الفوضى.
وفي شهر رمضان دخل دمشق، ونزل بقلعتها حيث استقبله الأهالي بالترحاب، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم! وبادر (( قطز)) وهو في دمشق إلى إرسال ركن الدين (( بيبرس)) على رأس قوة لمطاردة التتار في شمال الشام، وتطهير البلاد منهم نهائيا.
وكان لهذا الزحف الإسلامي تأثير في النفوس، وأصبح التتار في ذعر شامل، وشربوا من الكأس التي جرعوها لضحاياهم من قبل، فلما علموا بأن القوة الإسلامية على رأسها ركن الدين (( بيبرس)) قد اقتربت من حمص، ألقوا ما معهم من متاع وأسلاب، وأطلقوا الأسرى، وطلبوا النجاة لأنفسهم، واستطاعت جيوش المسلمين أن تنزل بفلول التتار هزيمة فادحة، جعلت ((هولاكو)) صاحب خطة غزو الشام يفقد صوابه، ولا سيما بعد أن قتل نائبه (( كتبغا)) ورأى نهاية مجهوداته تكلل بالخزي والعار!
إخوة الإيمان:
ومما زاد في شأن وقعة (( عين جالوت)) أنها لم تكن نصرا ماديا فحسب، بل إنقاذا من عقدة نفسية رسخت في أذهان المسلمين عن وحشية التتار، وزحفهم الذي لا يقاوم، إذ كانت تلك أول لطمة قاتلة نزلت في الشرق بجيوش التتار، بل كانت بمثابة المعجزة التي لم ينتظر أحد حدوثها. وما كاد المسلمون يبرئون من هذا المرض النفسي العضال حتى أخذوا يحصنون أنفسهم بالتضامن ويسيرون قدما في سبيل الجهاد، حتى حرروا ديارهم من التتار، واستعادوا مكانتهم بين أمم العالم أجمع. فرحم الله أياما كان فيها المسلمون مسلمين حقا، وعجل الله أياما يعز فيها
وختاما إخوة الإيمان: نسأل الله عز وجل، في هذا اليوم المبارك من أيام شهر رمضان الفضيل، أن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة، وأن يجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. وأن يعيد لأمة الإسلام أيام عزها ومجدها ويمكن لها في الأرض، نسأله سبحانه وتعالى أن يكون ذلك قريبا وعلى أيدينا وفي رمضان. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكـم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أبو إبراهيم