فقرات المرأة المسلمة خلفاء ورعية – الثانية –
حيَّاكُمُ اللهُ مَعَنَا مِنْ إذَاعَةِ المكتَبِ الإعْلامِيِّ لِحِزبِ التَّحرير , حَيثُ نلتَقِي بِكُم مُجدَّداً , فِي فِقرَاتِنَا المـُتتابِعَةِ مِنْ سِلسِلةَ خُلفَاءُ وَرَعِيَّة , الَّتِي نقفُ فِيهَا عَلَى مَواقِفَ لخلفاءِ المسلِمِينَ فِي حُكمِهِم للبِلادِ وَالعِبادِ نعتزُّ بِهَا , فنُباهِي بعدلهِم الأُمَمَ فأهلاً وَمَرحباً بِكُم.
وَسيَكونُ حَديثُنا لِهَذَا اليَوم عَنْ خَليفةٍ امتَلأَتِ الأَرْضُ بِدَويِّ عَدلِهِ , إنَّهُ الفَارُوقُ عُمرُ بنُ الخطَّابِ t وأرضَاه.
كانَ “عمرُ بنُ الخطَّابِ” نمَوُذجاً فرِيداً للحَاكمِ الَّذِي يَستشعِرُ مسؤُوليَّتًهُ أمَامَ اللهِ وأَمامَ الأمَّة، فَقَدْ كَانَ مِثالاً نادراً للزِّهدِ والوَرَعِ، وَالتَّواضُعِ والإحسَاسِ بثِقَلِ التَّبِعَةِ وَخُطُورَةِ مسؤُوليَّةِ الحُكم، حتَّى أنَّهُ كانَ يخرُجُ ليلاً يتفقَّدُ أحوالَ المسلِمينَ، وَيلتَمِسُ حَاجَاتِ رَعيَّتهِ الَّتي استَودَعَهُ اللهُ أمَانتَهَا، وَلهُ فِي ذَلكَ قِصصٌ عجِيبَة، مِنْ ذَلكَ مَا رُوِيَ أنَّه بينَمَا كَانَ يَعِسُّ بالمدِينةِ إذَا بِخيمَةٍ يَصدُرُ مِنهَا أنِينُ امرَأة، فلمَّا اقترَبَ رَأى رَجُلاً قاعِداً فَاقتَرَبَ مِنهُ وَسلَّمَ عَلَيه، وَسأَلَه عَن خَبَرهِ، فَعلِمَ أنَّه جَاءَ مِنَ البَادِيَةِ، وَأنَّ امرَأتَهُ جَاءَها المخَاضُ وَليسَ عِندَهَا أحَدٌ، فانْطلقَ عُمرُ إلَى بَيتِهِ فقَالَ لامرَأتِهِ “أمُّ كُلثوم”: هَلْ لَكِ فِي أجرٍ سَاقَهُ اللهُ إلَيكِ؟ فَقالَت: وَمَا هُو؟ قالَ: امْرأةٌ غَريبةٌ تَمخُضُ وَليسَ عِندَها أحَدٌ. قالَت :نَعَم إنْ شِئتَ, فَانطلقَتْ مَعَهُ، وَحمَلتْ إليَهَا مَا تحتَاجُهُ مِنْ سَمنٍ وَحُبُوبٍ وَطعَام، فَدخَلتْ عَلى المـَرأةِ، وَراحَ عُمرُ يُوقِدُ النَّار حتَّى انبعَثَ الدُّخانُ مِن لحيتِهِ، وَالرَّجلُ يَنظرُ إليهِ مُتعجِّباً وَهُوُ لا يَعرِفُهُ، فَلمَّا وَلدَتْ المرأةُ نَادتْ أمُّ كُلثوم “عُمَر” يَا أمِيرَ المؤْمنِين، بَشِّر صَاحِبَكَ بغُلام، فَلمَّا سَمِعَ الرَّجلُ أخَذَ يترَاجَع وَقدْ أخذَتهُ الهيبَةُ والدَّهشَة، فَسكَّنَ عُمرُ مِنْ رَوعِهِ وَحملَ الطَّعامَ إلَى زَوجتِهِ لتُطعِمَ امرأَة الرَّجل، ثُمَّ قامَ وَوضعَ شَيئاً مِنَ الطَّعامِ بينَ يَديِ الرَّجُل وَهُوَ يَقُولُ لَه: كُل وَيحكَ فَإنَّكَ قَد سَهِرتَ اللَّيل.
وَكانَ “عُمرُ” عَفيفاً مترفِّعاً عَن أمْوالِ المسلِمين، حَتَّى إنَّه جَعلَ نفقَتَه وَنفقَةَ عِيالهِ كُلَّ يومٍ دِرهمَين، فِي الوَقتِ الَّذي كَانَ يأتِيهِ الخرَاجُ لا يَدرِي لَهُ عَدَّاً فَيُفرِّقهُ عَلَى المسلِمِين، وَلا يُبقِي لِنفسِه مِنهُ شَيئَاً.
وَكانَ يَقُول: أنزَلتُ ماَل اللهِ مِنِّي مَنزِلةَ مَالِ اليَتِيم، فإنْ استَغنَيتُ عَففْتُ عَنه، وإنِ افتقَرتُ أكَلتُ بالمعرُوفِ.
وَخرَجَ يوماً حتَّى أتَى المنبَر، وَكانَ قَدِ اشتَكَى ألماً فِي بَطنهِ فوُصِفَ لهُ العسَل، وَكانَ فِي بَيتِ المالِ آنِيةٌ مِنه، فقَالَ يَستأذِنُ الرَّعِيَّة: إنْ أذِنتُم لِي فِيهَا أخَذتُها، وَإلا فَإنهَّا عَليَّ حَرَام، فَأذِنوا لهُ فِيهَا.
وَمِنْ مَواقِفِه المشرِّفةِ الَّتِي تُميِّزهُ كحَاكِمٍ يحكُمُ بِشَرعِ اللِه أنَّهُ دَخلَ حُذيفَةُ t يَوماً علَى عُمرِ بْنِ الخطَّابِ t فَوَجدَهُ مَهمُومَ النَّفسِ بَاكِيَ العَينِ , فسَألهُ :مَاذَا يَا أمِيرَ المؤْمِنِين ؟؟فأجَابَ عُمرُ : ” إنِّي أخافُ أنْ أخطِيءَ فَلا يَردَّنِي أحدٌ مِنكُم تعظِيماً لِي”, فقالَ حُذَيفَةُ لهُ :” وَاللهِ لَو رَأينَاكَ خَرجْتَ عَنِ الحقِّ لرَدَدْنَاكَ إلَيهِ”. ففَرِحَ عُمرُ واستَيشَرَ قَائِلاً :” الحمدُ للهِ الَّذِي جَعلَ لِي أصحَاباً يُقوِّمُونَنِي إذَا اعْوَجَحت”.
وَكانَ أنْ صَعدَ عُمرُ المنبَرَ يَوماً فقَال :” يَا معشَرَ المسلِمِين , مَاذَا تَقُولُونَ لَو مِلتُ بِرأسِي إلَى الدَّنيَا هَكذَا؟” فيَشُقٌّ الصُّفوفَ رَجُلٌ وَيقُول وَهُو يُلوِّحُ بِذرَاعهِ كأنَّها حُسامٌ ممشُوق,”إذَن نَقُولُ بالسَّيفِ هَكذَا “فيسَألهُ عُمرُ :”إيَّايَ تعنِي بِقولِك؟ فيُجِيبُ الرَّجُلُ :نعَم إيَّاكَ أعنِي بِقولِي. فتُضِيءُ الفَرحَةٌ وَجهَ عُمَر , وَيقُول :”رَحِمَكَ اللهُ, والحمدُ للهِ الَّذِي جَعلَ فِيكُم مَن يُقوِّمُ عَوَجِي.”
وَمِنْ مَواقفِهِ t فِي سمَاعِ رَعيَّتهِ أنَّه خطبُ النَّاسَ يَوماً فقَال : “لاتَزيدُوا مُهورَ النِّساءِ عَلَى أربَعينَ أُوقيَّة , فمَنْ رادَ ألقَيتُ الزِّيادَةَ فِي بَيتِ المالِ”فتَنهضُ مِنْ صفُوفِ النِّساءِ سيِّدةٌ تقُول : مَا ذَاكَ لَك ..فيسألهُا: “وَلم ؟فتُجيبُه : لأنَّ اللهَ تعَالَى يَقُول :{ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (النساء:2)فيتَهلَّلُ وَجهُ عُمَر , وَيبتَسِمُ وَيقُولُ عِبَارَتَهُ:”أصَابَتِ امرأَةٌ , وَأخطأَ عُمَر.”
هَذهِ مواقِفُ قليلةٌ منْ مَواقفَ كَثيرة ٍشرَّفَ بِهَا عُمرُ تارِيخَ المسلِمين , وَكانَ مِنْ رَعَايتهِ للمُسلِمينَ مَا
اتَّسمَ عَهدُهُ tمِنَ الإنجَازاتِ الإدَاريَّةِ والحضَاريَّة، لَعلَّ مِنْ أهمِّهَا أنَّهُ أوَّلُ مَنْ اتَّخذَ الهِجرَةَ مَبدأً للتَّاريخِ الإسلاميّ، كمَا أنَّه أوَّلُ مَن دَوَّنَ الدَّواوِين، وَ أوَّلُ مَنِ اتَّخذَ بَيتَ المالِ، وَأوَّلُ مَن اهتَمَّ بإِنشاءِ المـُدنِ الجدِيدَةِ، وَهُو مَا كانَ يُطلقُ عَليهِ “تمصِيرُ الأمصَار”.
فتِحتْ فِي عَهْدِهِ بلادُ الشَّامِ وَ العِرَاق وَ فارِس وَ مِصرَ وَ طرَابلُسِ الغَربِ وأذربِيجَان وَغيرِهَا. وَ بُنيَت فِي عَهدِهِ البَصرةُ وَالكُوفَة. وَكانَ عُمرُ أوَّلُ مَنْ أخرَجَ اليَهودَ مِنَ الجزِيرَةِ العربيَّةِ .
نَعَم هَكذَا كَانَ خُلفاءُ المسلِمِينَ يَحكُمون بِكتَابِ اللهِ وَسنَّةِ نبيِّهِ , لا يَظلِمُون الرَّعِيَّةَ وَلا يَهمُّهُم مِن حُكمِهِم إِلا مَرضَاةِ اللهِ تَعَالَى لا مَرضَاةَ أنُفسِهِم , رَحمَكَ الله يَا عُمَر وَأعَادَ لنَا أيَّامك , وَالسَّلامُ عَليكُم وَرحمَةُ اللهِ تَعالَى وَبرَكاتُهُ .