نفحات إيمانية- شهر رمضان شهر الفتوحات والانتصارات فتح عمورية –
الحمد لله الذي فـتح أبواب الجـنـان لعباده الصائمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسـلين، المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه الطيـبين الطـاهرين، ومن تبـعه وسار على دربه واهتدى بهديه واستـن بسنــته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أمـا بعد:
اجتمعت على الدولة العباسية في النصف الأول من القرن الثالث الهجري قوتان رهيبتان:
الأولى: المجوسية متجسمة في أتباع بابك الخـرمي، الذي قتل من المسلمين والمسلمات في عشرين سنة مائتين وخمسة وخمسين ألفا.
والثانية: البيزنطية متكئة على جيوش ثيوفلس بن ميخائيل ملك القسطنطينية والأناضول، الذي رصد لحرب المسلمين مائة ألف جندي أو يزيدون.
ولما ضيقت الجيوش الإسلامية الخناق على بابك، وقامت بحركات عسكرية واسعة في الشرق، لم يسبق لها نظير في تاريخ الحروب، كانت الرسائل دائرة حينئذ بين عدوي الإسلام ثيوفلس وبابك نصير المجوسية. فبادر ثيوفلس إلى حرب المسلمين في الشمال؛ ليخفف الضغط عن بابك الخـرمي في الشرق، فبينما الفيالق المحمدية تخوض الموت خوضا في أذربيجان وأرمينيا، للبطش بزعيم المجوسية، كان ثيوفلس يغدر في البلاد الإسلامية التي على حدود الأناضول مثل ملطية وزبطرة وغيرهما، فيسبي المسلمات، ويسمل أي يفقأ عيون الشيوخ المسلمين، ويقطع أنوف أطفالهم وآذانهم، وقد ارتكب من الفظائع ما تقشعر له الأبدان، منتهزا خلو هذه الديار من الجيوش الكافية المشغولة بحرب بابك.
وكان من بين النساء المسلمات اللاتي ساقهن ثيوفلس من زبطرة إلى عمورية بالقرب من أنقرة، سيدة من نساء بني هاشم، ممتلئة بالعزة والأنفة والشجاعة والشرف، وكانت ترى أن كل ما في الدنيا من عزة وشجاعة وشرف متمثل في نفس الخليفة أمير المؤمنين، المعتصم بن هارون الرشيد؛ لأنه إمام المسلمين، وقائد جيوشهم، فهو ـ بمن تحت إمرته من ملايين الأسود، وبما هو قائم من نـصرة دين الله ـ قادر على أن يزيل عن رعيته كل بؤس مهما كان شديدا !
وفي ضحوة يوم من أيام الشتاء، سنة ثلاث وعشرين ومائتين هجرية، آذار سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة ميلادية، كان أمير المؤمنين جالسا في قصره العظيم بمدينة (( سر من رأى)) ومن حوله حشمه وأهل قصره، فقال له الحاجب: يا أمير المؤمنين، شيخ مسلم بالباب، هارب من أسر الروم، يريد المثول بين يديك.
فلما أذن له دخل فقال: يا أمير المؤمنين، جئتك من عمورية، المجاورة لأنقرة، وكنت أسيرا فيها، فسمعت سيدة مسلمة من أسرى زبطرة تنادي ـ رغم ما بينك وبينها من جبال ومفاوزـ وامعتصماه! فجئتك هاربا من أسرهم، مقتحما صنوف الأخطار؛ لأبلغك صوتها!
فلما سمع الخليفة أمير المؤمنين، المعتصم بن هارون الرشيد مقالة ذلك الشيخ نهض في الحال مجيبا نداءها: لبيك ، لبيك! ودعا إليه عبد الرحمن بن إسحاق قاضي بغداد، وشعبة بن سهل، أحد كبار العلماء، وثلاثمائة وثمانية وعشرين رجلا من أهل العدالة، فقال لهم:
إني ذاهب في سبيل الله؛ لأنقذ تلك المرأة المسلمة التي دعتني من أعماق بلاد الروم، وقد لا أعود إليكم، فاشهدوا أني وقفت جميع ما أملكه من الضياع، فجعلت ثلثا لولدي، وثلثا لله تعالى، وثلثا لموالي.
ثم أمر من صاح في قصره: النفير، النفير! ثم امتطى صهوة جواده، وأخذ معه حقيبة فيها زاده، وأصدر أوامره بأن تكون الجيوش التي تلحق به أعظم جيوش سالت بها الأباطح قبل ذلك اليوم!
فما زالت الجيوش تتبعه يوما بعد يوم، يسلك بعضها إلى أنقرة وعمورية طريق الساحل إلى جانب طرطوس ومرسين، ومنها إلى قونية فمدينة أنقرة.
والجيوش الأخرى اتبعت الطرق الداخلية بقدر ما تحتمله تلك الطرق من الجيوش، وما زالوا كذلك حتى اخترقوا الأناضول ومعاقله وحصونه، فوصلوا إلى أنقرة في ربيع سنة ثلاث وعشرين ومائتين هجرية، ثمان وثلاثين وثمانمائة ميلادية، فدمرها المعتصم على رؤوس أهلها.
ولما انتهى المعتصم من هذه المدينة، سار إلى عمورية، فكانت أمنع مدائن البيزنطيين، وأعز على الروم من القسطنطينية نفسها، فنزل على حصونها وأبراجها وأسوارها، وكانت أمنع أسوار عرفت إلى ذلك العهد، فما زال يلح عليها بمجانيقه ورهيب آلاته، حتى دخلها في شهر رمضان في تلك السنة، وكان أول ما طلبه الوصول إلى السيدة التي استجارت به وهي في سجنها، فقال كلمته الأولى: لبيك، لبيك!
وقد ثبت بالتاريخ أن أمير المؤمنين المعتصم كان يدير الحركات العسكرية بنفسه في هذه الوقائع، ويصدر الأوامر اليومية إلى جيوش كانت منه على مسافة أيام. وهو الذي رسم خطط هذه الحرب، وعين للقواد مراكزهم، ومناطق هجومهم.
ولما تفرغ المعتصم من بابك وقتله وأخذ بلاده، استدعى الجيوش لتأتي بين يديه، وتجهـز جهازا لم يجهـزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب، والدواب والنفط والخيل والبغال شيئا لم يسمع بمثله، وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال، وعبأ جيوشه تعبئة لم يسمع بمثلها، وقدم بين يديه الأمراء المعروفين بالحرب، فانتهى في سيره إلى نهر قريب من طرسوس.
وقد ركب ملك الروم في جيشه فقصد نحو المعتصم فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ، ودخل أحد قادة المسلمين بلاد الروم من ناحية أخرى فجاءوا في أثره وضاق ذرعه بسبب ذلك. فسار إليه ملك الروم في شرذمه من جيشه واستخلف على بقية جيشه قريبا له، فالتقيا هو وأحد قادة جيش المسلمين، فثبت له القائد، وقتل من الروم خلقا كثيرا، وجرح آخرين وتغلب على ملك الروم، وبلغه أن بقية الجيش قد شردوا عن قرابته، وذهبوا عنه، وتفرقوا عليه، فأسرع الأوبة، فإذا نظام الجيش قد أنحل، فغضب على قرابته وضرب عنقه!
وجاءت الأخبار بذلك كله إلى المعتصم، فسره ذلك وركب من فوره، وجاء إلى أنقره فوجد أهلها قد هربوا منها، ثم فرق المعتصم جيشه ثلاث فرق: الميمنة والميسرة والقلب، وجعل بين كل عسكرين فرسخان، وأمر كل أمير أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلبا ومقدمة وساقة، وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوه وخربوه وأسروا وغنموا، وسار بهم كذلك قاصدا إلى عمورية، وكان بينها وبين مدينة أنقره سبع مراحل، فأول من وصل إليها من الجيش أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس، لخمس خلون من رمضان من هذه السنة، فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها، ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده، فدار حولها دورة، ثم نزل قريبا منها، وقد تحصن أهلها تحصنا شديدا، وملئوا أبراجها بالرجال والسلاح، وهي مدينة عظيمة كبيرة جدا ذات سور منيع، وأبراج عالية كبار كثيرة!
وقسم المعتصم الأبراج على الأمراء، فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين، وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام، وخرج إلى الخليفة فأسلم، وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل، وبني بناء ضعيفا بلا أساس، فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية، فكان أول موضع انهدم من سورها، ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير، فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة، فألح عليها بالمنجنيق، فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر، فلم تغن شيئا، وانهدم السور من ذلك الجانب وتفسخ، فكتب نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بذلك، وبعث ذلك مع غلامين من قومهم.
فلما اجتازوا الجيش في طريقهما أنكر المسلمون أمرهما فسألوهما: ممن أنتما فقالا: من أصحاب أمير سموه من أمراء المسلمين، فحملا إلى المعتصم فقررهما فإذا معهما كتاب من نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار، وأنه عازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة على المسلمين، وعلى مناجزتهم القتال، كائنا في ذلك ما كان.
فلما وقف المعتصم على ذلك، أمر بالغلامين فخلع عليهما من عطاياه، فأسلما من فورهما، فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد، وأن يوقفا فينثر عليهما الدراهم والخلع، ومعهما الكتاب الذي كتبه نائب البلد إلى ملك الروم، فجعلت الروم تلعنهما وتسبهما. ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ من خروج الروم بغتة، فضاقت الروم ذرعا بذلك وألح عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب.
ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور، وكان قد غنم في الطريق غنما كثيرا جدا، ففرقها في الناس، وأمر أن يأكل كل رجل رأسا، ويجيء بملء جلده ترابا فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام. ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقا ممهدا، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه، فلم يحوجه الله إلى ذلك.
وبينما الناس في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس: إنما ذلك سقوط السور، ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، لكن لم يكن ما هدم ليسع الخيل والرجال إذا دخلوا وقوى الحصار، وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميرا يحفظه! فضعف ذلك الأمير الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار فذهب أحد الأمراء يطلب نجدته، فامتنع أحد من الروم أن ينجده وقالوا: لا نترك ما نحن موكلون في حفظه!
فلما يئس ذلك الأمير منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به، فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها فجعلت الروم يشيرون إليهم، ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون، ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهرا وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها، فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسرا وقتلوا من فيها، وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فاحترقت، فأحرقوا عن آخرهم!
ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه نائب عمورية، وهو حصن منيع، فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه النائب فناداه المنادي: ويحك أيها النائب هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك فقالوا: ليس النائب ههنا مرتين، فغضب الخليفة المعتصم من ذلك، فرجع ونصب السلالم على الحصن، وطلعت الرسل إليه فقالوا له: ويحك انزل على حكم أمير المؤمنين، فتمنع ثم نزل متقلدا سيفا، فوضع السيف في عنقه، ثم جيء به حتى أوقف بين يدي المعتصم، فضربه بالسوط على رأسه، ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهانا فأوثق هناك!
وأخذ المسلمون من عمورية أموالا لا تحد ولا توصف، فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب، لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة، وكانت إقامته على عمورية خمسة وعشرين يوما.
وكان هذا النصر العظيم للدولة العباسية على الروم في الأناضول، بعد نصرها العظيم على المجوسية في فتنة بابك التي دامت عشرين سنة أصدق برهان على أن الله يصدق وعده بنصر المسلمين كلما أخلصوا دينهم لله، واشتروا الحياة الأبدية بثمن رخيص، وهو هذه الحياة القصيرة، ومتعتـها الحقيرة، فرحم الله أياما كان فيها المسلمون مسلمين حقا، وعجـل الله أياما يعز فيها الإسلام وأهله، ويذل فيها الكفر وأهله.
وختاما إخوة الإيمان: نسأل الله عز وجل، في هذا اليوم المبارك من أيام شهر رمضان الفضيل، أن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة، وأن يجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. وأن يعيد لأمة الإسلام أيام عزها ومجدها ويمكن لها في الأرض، نسأله سبحانه وتعالى أن يكون ذلك قريبا وعلى أيدينا وفي رمضان. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكـم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أبو إبراهيم