نفحات إيمانية- مقياس الأعمال عند المسلم
الحمد لله الذي فـتح أبواب الجـنـان لعباده الصائمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسـلين، المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه الطيـبين الطـاهرين، ومن تبـعه وسار على دربه، واهتدى بهديه واستـن بسنــته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أمـا بعد:
إخــوة الإيمـان: خطب الأمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقال:
(أما بعد: فإن الدنيا قد أدبرت، وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت، وأشرفت باطـلاع، وإن المضمار اليوم، وغدا السباق، ألا وإنكم في دار عمل من ورائها أجل، فمن قصر في أيام أمـله قبل حضور أجله فقد خـيـب عملـه، ألا فاعملـوا لله في الرغبة، كما تعملون له في الرهبة، واعملوا بالحق ليوم لا يـقضى فيه إلا بالحق، تـنزلـوا منازل الحق، ألا وإنكم أمرتـم بالظعن أي بالسفر، ودللتم على الزاد، وإن خير الزاد التقوى. ألا وإنكم اليوم في دار عمل ولا حساب، وغدا تكونون في دار حساب ولا عمل، فزنـوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم….)
إخــوة الإيمـان: ويتبادر الى الذهن سؤالان:
أمـا السـؤال الأول فهو: متى نزن أعمالـنا، أنزنـها قبل القيام بها أم نـزنـها بعد القيام بها؟
وأما السؤال الثاني فهو: كيف نزن أعمالـنا؟ وبأية وحدة أوزان نزنـها؟
والجواب عن السؤال الأول هو: أن نزن أعمالـنا قبل القيام بها لنعرف نتائجها مسبقا، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونـه قبل أن يقوم الواحد منهم بالعمل . فقد جاء أحدهم وقال: يا رسول الله أتأذن لي بالاختصاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم :ليس منـا من خـصى أو اختـصى”. فعرف الرجل أن الاختصاء حرام فامتنع عنه. وجاءت امرأة وقالت: يا رسول الله، إن والدي مات، وعليه صيام نـذر، أأصوم عنه؟ قال: نـعم، فعرفت المرأة أن صوم القضاء حلال، فصامت عن أبيها.
اما الجواب عن السؤال الثاني فنققول وبالله التوفيق أن وحدة الأوزان التي نزن بها الأفعال وهي الحرام ومن الحديث الثاني وهي الحلال.
إذا إخــوة الإيمـان: فمقياس الأعمال عند المسلم هو الحلال والحرام، فإن كان الفعل حلالا فعلناه، وإن كان حراما تجنبناه، والحلال والحرام هما حكمان شرعيان يعالج بهما الواقع، لذلك وجب على المسلم التقيد بالحـكم الشرعي، وأن يعرف حـكم فعله قبل أن يقوم به، فإن كان حلالا فعلـه، وإن كان حراما لم يفعلـه. وهكذا نزن أعمالـنا قبل أن توزن علينـا، فاتقـوا الله أيـها المؤمنون في أعمالكـم، وزنـوها قبل أن توزن عليكـم، وحاسبوا أنفسكـم قبل أن تحاسبوا.
إن الناظر في الواقع اليوم يرى أن أكثر النـاس في هذه الأيـام لا يـقيسون، ولا يزنـون أعمالهم بالحلال والحرام وإنـما يـقيسونـها بالمنفعة الماديـة، فما كان نافعا في نظرهم فـعلـوه ولـو كان حراما كما هو الحال في الاقتراض من البنوك الربـوية، والاستثمار فيها، وفي شراء أوراق اليانـصيب. وما كان غـير نـافع ماديـا تـركـوه ولـو كان فـرضا عـليهم، كما هو حاصل الآن في أن الكثير من المسلمين لا يؤدون زكاة أموالهم، ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكـر، ولا يعملـون لتغيير هذا الواقع الفاسد الذي يحكـمون فيه بغير شريعة الله، ويـتقاعسون، بل يحجمون عن حمل الدعوة مع المخلصين ،لاستئناف الحياة الإسلامية.
فـمن أين جاء مقياس المنفعة للأعمال؟ لـقـد جاء هذا المقياس من عقيدة فصل الدين عن الحياة، وهي عـقيدة الدول الغـربية التي صدروها للأمة الإسلامية، وتبنــتها دول المسلمين، فأبـاحوا الربـا وأباحوا فتح الخمارات، ورخـصوا فتح النـوادي الليلية للرقص والتـمثيل والغنـاء. وغـير ذلك كثير. فما هي حقيقة فصـل الدين عن الحياة؟
إخــوة الإيمـان: إن عـقيدة فصـل الدين عن الحياة هي التي تـحصر الدين في العبادات والأخلاق، ولا تـسمح لأحكام الدين أن تـنظـم العلاقـات، وأن تـعالج المعاملات بين النـاس في البيع والشـراء، والصـنـاعة والزراعة والحرب والسـلم، وغـير ذلك من شـؤون الحياة.
وقـد تـأثــر المسلمون بهذه العـقيدة نـتيجة تـعطيل أحكام الشـريعة الإسلاميـة، والعمـل بأحكام القوانين الوضعية المأخـوذة من عـقيدة فصـل الدين عن الحياة، فـقـصروا جـل أعمالهم على العبادات، من صلاة وصوم وزكاة وحج، باعتـبارها هي أركان الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم :”بني الإسلام على خـمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البـيت لمن استطاع إليه سبيلا”.
إخــوة الإيمـان:لـقـد فـهم كثير من المسلمين أنـهم إن قاموا بهذه الأركان الخمسة، فـقـد أدوا ما أوجبه الإسلام عـليهم، ونـود هـنـا أن نـبيـن لـهم أنـهم إذا اكتــفـوا بهذا فـقـد أهلـكـوا أنفـسهم، وكذلك يهلـــك كــل من أخـذ هذا منهجا لـه في الحياة. إن الحديث النـبـوي الشريف يشـبـه الإسلام بالبيت الذي يـقـوم على خـمسة أركان، وكما أن البيت يبنى لـيـقـي ساكنيه حـر الصيف وبرد الشـتاء، وليأمنـوا على أموالهم وأنفـسهم بإغلاق أبوابه إذا جن الليل، فكذلك الإسلام، فإنـه يعالـج مشاكل النـاس ويفصـل بينـهم في الخـصومات، ويكفــل لهم الأمن بسـلطانه، ولـو اكتـفـينـا بالعبادات الخمس، لما عالجنـا مشاكـل الزواج والطـلاق ومشاكل الخـصومات في الحـقـوق، وفي الاعتداءات على الأموال والأعراض ومشاكل الأمن.
أرأيتم يا أخوتي لـو جردنـا البيت من سـقـوفـه وجدرانه وأبوابـه، وتـركنـا أعمدتـه قائمة ، أيحمي أهلـه الساكنين فيه من حـر الصيف وبرد الشتاء، ويـؤمـنـهم على أموالهم وأنفـسهم؟ والجواب بالطـبع هو: لا، وكذلك الإسلام، فإن اقـتصار المسلمين على القيام بأركان الإسلام وتركـهم لـبقيـة أحكامه أدى إلى ما نـحن فيه من ذل وهوان، ومصداق ذلك الواقع الذي نـعيش فيه، فهاهم المسلمون يعيشون كالأيتام على مآدب اللــئام ، فصار المسلم يولـد فـلا يـؤبه لـه، ويعيش فـلا يعتـنـى به، ويموت فلا يحزن عـليه، ويـقتـل فـلا يـثأر لـه…!
فلا دولة للمسلمين تــنفــذ فيهم أحكام دينهم وترعاهم بحسبـه، ولا سـلطان لهم يحميهم من اعتداء أعدائهم عـليهم. فالمسلم في دولـة الإسلام إذا جاع أشبعت لـه جوعـتـه، وإذا خـاف أذهبت عـنه خـوفـه، وإذا اعتـدي عـليه انتصرت لـه من عدوه.
ورحم الله خليفة المسلمين أبا بكر الصديق الذي قال في أول خطبة له عقب تولـيه الخلافة: “ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفـكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه “.
أما دولـنا القائمة حاليـا، والتي تـطبـق عـقيدة فصـل الدين عن الحياة، لا تـفعـل شيئا من ذلك، فهاهم المسلمون في العراق وفي فلسطين وافغانستان والصومال واوزبكستان والشيشان وغيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين، من بقاع الارض وما أكثر المصلين والصائمين والمزكـين وحجاج بيت الله، النـاطقين بـالشـهادتين والذين يعدون بالملايـين، فهـل رفـع ذلك الضيم عن المسلميـن، أو أعـاد لهـم مجدهـم وعـزهم؟ هـل منـع قـيام المسلمين بهذه الأركان عدوان الأعداء عـليهـم ؟
كـلا.
نـعم إن الإسلام لا يـقـوم بغير هذه الأركان، كما لا يـقـوم البيت بغـير أعمدة، ولكنـها وحدها لا تكفي، فكما أن البيت يحتاج إلى جدران وسـقـوف وأبواب، لـيؤدي المنفعة المطلـوبة لساكنيه، كذلك فإن الإسلام فيه بالإضافـة إلى تلك الأركان نظام اجتماعي، ونظام اقتصادي، ونظام سياسي، ونظام حـكم.
إخــوة الإيمـان: إن الإسلام كــل لا يتجزأ، وهو نظام شامل يعالج جميع شؤون الحياة، وليس من فـرق بين قوله تعالى:(وأقيموا الصلاة)، وبين قوله تعالى:(وأن احكـم بينـهم بما أنزل الله).
فلماذا نعمـل بالآية الأولى، ولا نـعمـل بالآية الثانية؟ والله تعالى يـقول: (أفتؤمنـون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يـفعـل ذلك منكـم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغـافـل عما تعمـلـون ! أولئك الذين اشتـروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخــفــف عنهم العذاب ولا هم يـنصرون).
هذا هو معنى فـصـل الدين عن الحياة، ومعنـى الاقتـصار على العبادات دون المعاملات في الإسلام، وهذه نتـائجها: ضعـف المسلمين، وتـفـرقـهم، وذلـهم، حتى غـدا المسلم المـتـمسـك بدينه يعـد في نـظـر أهل هذه العـقيدة الفـاسدة أصوليـا أو إرهابيـا.
ولئن استمر هذا الحال على ما هو عليه، وظل المسلمون لا يـتقـيـدون بالحـكم الشرعي في أعمالهم وتصرفـاتهم، وظلـت المنفعة هي مقياس الأعمال عندهم، فسيزداد الفساد، وتـكثــر المحن، ويصدق فيهم قـول الله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون).
في هذه الآية وصف الله تعالى الذين لم يأخذوا بكل ما جاء في كتاب الله وسنـة رسوله، بأنـه لن يخفف عنهم تعذيب الأعداء لهم، واحتقارهم وإذلالهم لهم، ولا ينالون النصر من الله تعالى.
ألا عودوا أيها المسلمون إلى كتاب ربـكـم، وسنـة نـبيــكـم، وتـقـيـدوا بالحـكم الشرعي في أعمالكـم وتصرفاتكم لعـل الله يرحمكـم، ويغـير ما بكـم يقول تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفـسهم). ويـقول صلى الله عليه وسلم: ” ما من أهل قرية، ولا أهل بيت ولا رجـل ببادية كانـوا على ما أحب من طـاعتي، فتحولـوا عنها إلى ما أكره من معصيتي ثم تحولـوا عنها إلى ما أحب من طـاعتي، ألا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي، إلى ما يحبون من رحمتي أو كما قال”.
وختامـــا إخوة الإيمان: نسأل الله عز وجل، في هذا اليوم المبارك من أيام شهر رمضان الفضيل، أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبطاعته عن معصيته وبفضله عمن سواه وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة، وأن يجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكـم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أبو إبراهيم