نفحات إيمانية- محاسبة الحاكم فرض على المسلمين
الحمد لله الذي فـتح أبواب الجـنـان لعباده الصائمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسـلين، المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه الطيـبين الطـاهرين، ومن تبـعه وسار على دربه، واهتدى بهديه واستـن بسنــته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أمـا بعد:
إخــوة الإيمـان: أمر الله سبحانه وتعالى بطاعة أولي الأمر، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم طاعة ولي الأمر، وإن جلد ظهرك وأخذ مالك، ولكن ليس معنى وجوب طاعتهم ولو ظلموا، وأكلوا الحقوق، السكوت عليهم، بل تجب طاعتهم مع وجوب محاسبتهم على أعمالهم، وعلى تصرفاتهم.
روى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا”. وفي رواية أخرى: “فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع”. وهذه الرواية تفسر الرواية الأولى، فقد أمر الرسول بالإنكار على الحاكم، وأوجب هذا الإنكار بأي وسيلة مستطاعة باليد، على شرط أن تكون دون القتال أي دون السيف، وباللسان مطلقا، أي بأي قول من الأقوال، أو بالقلب إذا عجز عن التغيير باليد واللسان، وقد اعتبر من لم ينكر شريكا للحاكم في الإثم، إذ قال فمن رضي بما عملوه، وتابع على ذلك فلا يبرأ ولا يسلم من الإثم.
إخــوة الإيمـان: إن أدلة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أدلة على وجوب محاسبة الحاكم، لأنها عامة تشمل الحاكم وغيره. قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولـئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم). وقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون). وقال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولـئك هم المفلحون). وقال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر). وقال تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين). وقال تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
وكذلك وردت أحاديث كثيرة تدل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم”. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبلقبه، وذلك أضعف الإيمان”. وعن عدي بن عميرة رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة”.
و هناك أحاديث تنص على محاسبة الحاكم خاصة تأكيدا على المحاسبة، فعن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”. وعن أبي إمامة قال: عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل عند الجمرة الأولى: فقال: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية، سأله فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة، ووضع رجله في الغرز ليركب قال: “أين السائل؟” قال: أنا يا رسول الله، قال: “كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر”.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه فقتله”.
إخوة الإيمان: إن أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مثالا بارزا في فسح المجال أمام المسلمين لنقض أعمال حاكمهم، فقد اعترض المسلمون على عدة أعمال لسيدنا محمد وهو رئيس دولة فلم يزجرهم عن ذلك بل أقرهم عليه ونزل عند بعض آرائهم ، والحوادث على ذلك في سيرة الرسول كثيرة جدا. ففي معركة بدر نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش معه في مكان بناء على رأيه، فلم يعجب ذلك بعض المسلمين فجاءه الحباب بن المنذر بن الجموح وقال له: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل منزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال الرسول: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة”. قال الحباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض في الناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فتنزله ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لقد أشرت بالرأي”. ثم عمل برأيه، فلم يعتبر الرسول ذلك النقد لعمله كقائد جيش وحاكم إثما، وإنما قبله منه ونزل عنده.
إخــوة الإيمـان: وفي أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوها علينا قاتلناهم فيها”. فلم يرض ذلك أكثر المسلمين، وقالوا له: يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنـا جبنا عنهم وضعفنا. فاعتبروا رأي الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي عنهم صورة أنهم قد جبنوا أو ضعفوا فانتقدوه ولم يرضوا به، فلم يغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل نزل عند رأيهم، وخرج خارج المدينة عملا برأيهم.
وفي يوم الحديبية كان نقاش المسلمين حادا وهم يعترضون على عمله في عقد المعاهدة، واظهروا غضبهم من الهدنة، جاء في سيرة بن هشام:
فلما التأم الأمر، ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه ((أي أطع أمره ونهيه، ولا تحد عن طريقه، ولا تختر لنفسك إلا ما يختاره)) فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: “أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني!”.
فهذا يدل إخــوة الإيمـان، على مبلغ غضب المسلمين، وعلى مدى محاسبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم على عقد المعاهدة، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متأثرا من عمل الصحابة، وقد دخل بعد عقد المعاهدة على زوجه أم سلمة، فقال لها: لقد هلك المسلمون، ثم قص عليها ما حصل، فقالت له: احلق وتحلل فإنهم لا يخالفونك ثم ارحل فورا قافلا إلى المدينة. فخرج فقام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون، فحلق قوم وقصر آخرون مما يدل على بقاء غضب بعضهم، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “يرحم الله المحلقين”. قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال: “يرحم الله المحلقين” قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال :”يرحم الله المحلقين”. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: “والمقصرين”. فسألوا النبي، لماذا خص بالرحمة المحلقين أولا؟ فأجاب: “لأنهم لم يشكوا”. فهذه الحادثة تدل على مدى ما بلغه المسلمون من محاسبة الرسول صلى الله عليه وسلم على المعاهدة حتى تجاوز بعضهم الحد. وهي خير دليل على أن للمحاسبة حدودا لا يصح أن نتعداها.
ومحاسبة الحاكم تكون من الأفراد بوصفهم أفرادا، ومن الكتلة بوصفها كتلة فالله تعالى كما أمر المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبمحاسبة الحاكم بالذات قد أمر أن تتكتل كتل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي أمر أن توجد أحزاب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولـئك هم المفلحون). فالله تعالى أمر بإيجاد جماعة متكتلة تكتلا يوجد لها وصف الجماعة من بين جماعة المسلمين فقال: (ولتكن منكم أمة) أي جماعة لها وحدها وصف أمة أي وصف الجماعة وهو التكتل، أي أوجدوا أيها المسلمون كتلة تقوم بعملين: أحدهما: (يدعون إلى الخير). والثاني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
إخــوة الإيمـان: والحكام هم ممن يأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، وهذا يعني أن الله تعالى طلب إقامة أحزاب سياسية، لأن الله تعالى لم يطلب في هذه الآية من المسلمين الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما طلب إقامة جماعة أو جماعات أي كتلا تقوم بهذين العملين، فتكون الآية نصا بإقامة التكتلات، وليس تكتلات فقط بل تكتلات معينة، تكتلات تقوم بهذين العملين، ولا يستكمل التكتل هذه الصفة المعينة ويكون تكتلا مما طلبته الآية إلا إذا كان حزبا سياسيا، أي إلا إذا كان تكتلا يحاسب الحكام ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فإذا لم يكن التكتل كذلك لا يستوفي ما طلبته الآية، أي لا يستوفي الوصف المعين للتكتل الذي عينته الآية، وهو شمول الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحكام ومحاسبتهم، وعلى هذا تكون الآية أمرا بإقامة الأحزاب السياسية لمحاسبة الحكام على أعمالهم والدعوة إلى الخير.
وختامـــا إخوة الإيمان، نسأل الله عز وجل، في هذا اليوم المبارك من أيام شهر رمضان الفضيل، أن يجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه وأن نكون ممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة، وأن يجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه،
والسلام عليكـم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أبو إبراهيم