مع الحديث الشريف- المحبة في الله
عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ قَالَ هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) } رواه أبو داود
جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود بتصرف يسير ” قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( هُمْ قَوْم تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّه ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ : فَسَرُّوهُ الْقُرْآن وَعَلَى هَذَا يُتَأَوَّل قَوْله عَزَّ وَجَلَّ { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْك رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } سَمَّاهُ رُوحًا وَاَللَّه أَعْلَم لِأَنَّ الْقُلُوب تَحْيَا بِهِ كَمَا يَكُون حَيَاة النُّفُوس وَالْأَبَدَانِ بِالْأَرْوَاحِ اِنْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَجْمَع : أَيْ بِالْقُرْآنِ وَمُتَابَعَته, وَقِيلَ أَرَادَ بِهِ الْمَحَبَّة أَيْ يَتَحَابُّونَ بِمَا أَوْقَعَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ مِنْ الْمَحَبَّة الْخَالِصَة لِلَّهِ تَعَالَى
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ وُجُوههمْ لَنُور ) : أَيْ مُنَوَّرَة أَوْ ذَات نُور
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَعَلَى نُور ) : أَيْ عَلَى مَنَابِر نُور.
قَالَ اِبْن رَسْلَان فِي شَرْح السُّنَن : فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَجِب أَنْ يَكُون لِلرَّجُلِ أَعْدَاء يُبْغِضهُمْ فِي اللَّه كَمَا يَكُون لَهُ أَصْدِقَاء يُحِبّهُمْ فِي اللَّه, بَيَانه أَنَّك إِذَا أَحْبَبْت إِنْسَانًا لِأَنَّهُ مُطِيع لِلَّهِ وَمَحْبُوب عِنْد اللَّه فَإِنْ عَصَاهُ فَلَا بُدّ أَنْ تُبْغِضهُ لِأَنَّهُ عَاصٍ لِلَّهِ وَمَمْقُوت عِنْد اللَّه فَمَنْ أَحَبَّ لِسَبَبٍ فَبِالضَّرُورَةِ يُبْغِض لِضِدِّهِ وَهَذَانِ وَصْفَانِ مُتَلَازِمَانِ لَا يَنْفَصِل أَحَدهمَا عَنْ الْآخَر وَهُوَ مُطَّرِد فِي الْحُبّ وَالْبُغْض فِي الْعَادَات.”
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه” وهما من السبعة الذين يظلهما الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ووجود هذه المحبة الصادقة، وهذا الود الصافي أمر طبيعي بين شباب الدعوة وهو دليل على التفاعل وحمل الدعوة بصدق، ومن كانوا كذلك فهم من أولياء الله حقا، وقد ذكر الله تعالى لنا طبيعة العلاقات بين المهاجرين والأنصار في قرآن يتلى على مدى الأيام (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ثم لما فرغ سبحانه من ذلك، ذكر ( وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ).
لذا ينبغي تقوية الصلات بين المسلمين والإكثار من التزاور فيما بينهم، وتفقد الأحوال والسؤال عن بعضهم البعض، وأن يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وأن يكونوا عند بعضهم البعض في الشدائد والحاجات فقد روى مسلم في صحيحه قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه معتكفا في مسجد الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام إذ رأى رجلا حزينا جالسا في طرف من المسجد، فأقبل عليه يسأله عن سبب حزنه، فلما علم بمشكلته قال له: قم معي وأنا أقضي لك حاجتك، فقال الرجل: أتترك اعتكافك في مسجد الرسول من أجلي؟ فبكى أبو هريرة وقال: سمعت صاحب هذا القبر والعهد به قريب يقول: ” لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه حتى يقضيها له خير من اعتكافه في مسجدي هذا عشر سنين “.
وعلى المسلم أن يترك غيبة أخيه وذلك بأن يذكره بالسوء من وراء ظهره، والصحيح أن ينشغل بعيوب الكفار والمنافقين وبيان ما يبيتون للإسلام والمسلمين. قال سفيان بن حسين الواسطي: ذكرت رجلا بسوء عند إياس بن معاوية المزني قاضي البصرة -وهو تابعي يضرب المثل بذكائه- فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم؟ فقلت: لا، السند والهند والترك؟ قلت: لا، قال: أفسلم منك الروم والسند والهند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟ قال سفيان: فلم أعد بعدها.
وعلى المسلم أن يترك إساءة الظن بإخوانه وأن يحمل فعلهم على الحسن ما أمكن لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث” وإن سوء الظن قد يدعو إلى التجسس المنهي عنه، وعلى الشاب أن يستر عيبة أخيه ويتغافل عنها فإن ذلك من شيم أهل التقوى، قال عبد الله بن المبارك: “المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات” ومن المعروف أن منشأ التقصير في ستر العورات والمغري بكشفها هو الحقد والحسد، والمؤمن الحق أبعد ما يكون عن ذلك وعلى المسلم أن يدعو لأخيه في حياته وبعد موته بكل ما يدعو به لنفسه، فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: “دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل “وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يدعو لخلق كثير من إخوانه يسميهم بأسمائهم، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يدعو في السحر لستة نفر. وقد ورد في (الأدب المفرد) حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: “أسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب” وورد فيه أيضا أن أبا بكر الصديق قال: “إن دعوة الأخ في الله تستجاب”.
وعلى المسلم أن يخفض جناحه لإخوانه، وأن يذعن للحق ولا يتبع الهوى، وقد حذر الرسول الكريم من إعجاب المرء بنفسه ومن اتباع الهوى، وهو يقول في حديث ناهيا عن الكبر وداعيا إلى التواضع “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس” قال الشوكاني في معنى بطر الحق: هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا قاله النووي، وفي القاموس المحيط: بطر الحق أن يتكبر عنده فلا يقبله، والغمص أو الغمط قال النووي: هو احتقار الناس. وفي الإخلاص والتواضع يقول الشافعي رحمة الله” ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ وما في قلبي من علم إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب إلي”.
وفي نفس المعنى وفي مبلغ حب الخير للآخرين يقول ابن عباس رضي الله عنهما: “إني لأتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي اعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل ويحكم بالقسط، فأفرح له وأدعو له، ومالي عنده قضية، وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة”.