إضاءات على تاريخ الدولة الإسلامية سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ج2
إن في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم معينا لا ينضب لكل أمر من أمور الحياة وسنذكر هنا بعض الإضاءات من سيرته صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة الإسلامية.
فالدولة الإسلامية أيها السادة ليست دولة “محلية أو إقليمية” وإنما هي دولة عالمية لها رسالة عالمية، وهي إنقاذ البشرية من الظلمات إلى النور، ولهذا فإنها تحتاج إلى جهد غير عادي لتكون جديرة بهذه المهمة النبيلة فلا بد من توفر إمكانات فكرية وبشرية ومادية عظيمة وسنرى في هذه الإضاءات كيف حشد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الإمكانات.
أما الإمكانات الفكرية فهي دين الإسلام والإسلام دين عالمي بمعنى أنه يصلح أن يحمل لجميع شعوب الأرض ويصلح أن يطبق على الإنسان بوصفه إنسانا، سواء أكان هذا الإنسان كافرا أو مؤمنا ويصلح أن يطبق في أي مكان في الكرة الأرضية وفي أي زمان أيضا، إنه دين يوافق الفطرة الإنسانية ويقنع العقل ويطمئن القلب وبإمكانه كما قلنا أن يحل كل مشاكل الإنسان بوصفه إنسانا والإسلام إذا حمل حملا صادقا ملك القلوب والعقول ومن أجدر برسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل هذا الدين للناس بل ومن أصدق منه لهجة، ومن أقوة منه حجة في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
لقد حمل الرسول هذا الدين للعرب في جزيرتهم فكون كتلة الصحابة في مكة والمدينة وسرعان ما ملك الإسلام قلوب وعقول حامليه فانطلق هذا الجمع المبارك يحمل هذا الدين بالجهاد إلى سائر العرب، والعرب أمة جديرة بأن تحمل هذا الدين فهي أمة جهاد، أمة تتميز وتتميزت على غيرها بأنها تتحمل مسؤولية الكفالة على الغير ولديها من السجايا ما يؤهلها لأن تحمل هذا الدين للعالم أجمع بكل تفان وإخلاص قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )(البقرة: من الآية143) أما الإمكانات المادية فقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أقصى ما يستطيع من قوى مادية تطبيقا لقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )(لأنفال: من الآية60) فقد أمر بعض الصحابة بتعلم بعض الصناعات اللازمة للحرب كصناعة القسي والسهام وبعض أدوات الحصار كما اشترى السيوف والخيول من نجد واليمن وإنه وإن كان عدد المسلمين في أغلب غزواتهم أقل من عدد أعدائهم وعُدَدهم أقل من عُدَدِ أعدائهم، إلا أن هذا النقص كان يعوض بقوة إيمان المسلمين وتفانيهم في حمل الإسلام لا يحيدون عن إحدى الحسنين: إما النصر وإما الشهادة ولهذا كان يكتب لهم النصر بفضل الله وإنجازا لوعده لهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) أما كيفية بناء الدولة الإسلامية، فالسيرة النبوية ثرية بإضاءات في هذا الميدان فبعيد الهجرة بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في وضع اللبنات في صرح الدولة الإسلامية، فأبتنى الرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون المسجد بمواد بسيطة وبزمن قياسي ليكون هذا المسجد مكانا للصلاة ومكانا لإدارة الدولة، ومكانا للقضاء والتعليم، ومكانا لعقد الرايات والألوية للمجاهدين، هذه هي اللبنة الأولى، أما اللبنة الثانية فهي مؤاخاته عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار فالمهاجرون تركوا ديارهم ولم يكونوا يملكون من حطام الدنيا شيئا والأنصار لديهم ما يكفيهم ويزيد والإسلام لا يقر أن يكون أناس لديهم ما يفيض عن حاجاتهم وأناس يتضورون جوعا ويلتحفون السماء فتقبل الأنصار عن طيب خاطر تبعات هذه المؤاخاة، وأيم الله إن البشرية في تاريخها كله لم تعرف إيثارا مثل هذا الإيثار كيف لا والأنصار أيضا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذه المؤاخاة بسنة واحدة على حرب الأحمر والأسود في بيعة العقبة الثانية ووالله إن للأنصار في رقبة كل مسلم دينا إلى يوم الدين فجزاهم الله عنا خير الجزاء وأثابهم الله الفردوس الأعلى يوم القيامة.
أما اللبنة الثالثة فهي الصحيفة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين وغيرهم من كيانات يهود، الذين كانوا يسكنون المدينة وما حولها وقد بينت الصحيفة حقوق والتزامات كل طرف على الطرف الآخر وإذا ما حدث خلاف يتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هذا الخلاف فعرف كل فريق حدوده والتزماته، إذن لقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأفعاله هذه المجتمع في المدينة المنورة مجتمعا متجانسا، تقوم العلاقات بين جماعاته على الأخوة والتفاهم بين المسلمين وعلى معرفة كل كيان واجباته والتزاماته بحيث لا يتأتى ليهود أن تكون عونا أو عيونا لأعداء المسلمين على المسلمين، وعليه فقد أصبح المجتمع في المدينة مجتمعا إسلاميا تسود العلاقات الأخوية الحسنة والروابط القوية جماعاته فأصبحت أفكارهم واحدة، ومشاعرهم واحدة والنظام الذي يحكمهم واحد وكل هذه منبثقة عن العقيد ة الإسلامية. وإنه وإن كان يظهر بعض النفاق هنا وهناك، وبعض المشاكل من حين إلى آخر، والتي لا بد من حدوثها لأن من تطبق عليهم أنظمة الإسلام بشر يخطئون ويصيبون، ولكنه في المجمل مجتمع قوي متماسك جبهته الداخلية -كما يقال في العصر الحديث- قوية.وعليه فيستطيع من يحكم هذا المجتمع ومن يتولى الأمر في هذه الدولة وأمثالها، أن يسير بكل ثقة وبكل عزيمة، لتحقيق المهمة التي كلفه الله بها، ألا وهي حمل الإسلام إلى العالم بالجهاد وقد نهض رسول الله والمسلمون لتحقيق هذه المهمة، ومن طبيعة الأمور أن يحملوا الإسلام لمن جاورهم من العرب وعلى رأسهم أهل مكة، وقد كانت مكة أقوى كيان في جزيرة العرب. وقد أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عشر سنين يحملون الإسلام لمكة والجزيرة العربية حتى دانت جزيرة العرب كلها لهذا الدين.
يقول التاريخ: إن مجموع من استشهد من المسلمين ومن قتل من غيرهم كان أقل من ألف ضحية. رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحد جزيرة العرب ويجعلها تعتنق دين الإسلام وطوال عشر سنين والضحايا أقل من ألف، فأي فتح أرحم من هذا الفتح، يا من تشوهون تاريخ الإسلام، يا من تحقدون على الإسلام، بالله عليكم هل عرفت البشرية فتحا أرحم من هذا الفتح؟ ماذا كان يفعل الروم والفرس في حروبهم إذا ما استولوا على بلد، كم عدد الضحايا التي كانت تسفك في كل معركة وأنتم أيها الصليبيون الجدد، ماذا فعل أجدادكم الصليبيون في بلاد الشام وشمال العراق وآسيا الصغرى في حروبهم الصليبية، لقد قتلوا في القدس وحدها أكثر من سبعين ألفا في أقل من يوم واحد، وفي معركة واحدة، فكم قتلوا إذن في المعارك كلها؟ بل ماذا فعلتم وماذا تفعلون الآن في أفغانستان والعراق وفلسطين، وغيرها من البلدان كم من الأنفس أزهقتم. بل ماذا فعلتم في المعارك التي خضتموها في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، كم من الأرواح أزهقتم أنتم، تقولون لقد كان ضحايا الحرب العالمية الثانية في أوروبا وحدها أكثر من خمسين مليون نسمة في أقل من ست سنين.
تعلموا من رسولنا، تعلموا من إسلامنا، ولكن هيهات هيهات فنحن المسلمين نجاهد لتكون كلمة الله هي العليا لا نجاهد لكسب المغانم ولا لبسط السيطرة والطغيان أما أنتم فتقاتلون لنيل المغانم وقهر الشعوب واستعبادها.
أيها الناس لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة وقد كان أهلها قد آذوه وآذوا أصحابه وأخرجوه وأخرجوا أصحابه ، لما فتح مكة دخلها دخول المتذلل إلى ربه وسار إلى الكعبة فحطم الأصنام وإذا أكثر أهل مكة في المسجد الحرام فالتفت إلى أهل مكة وهو المنتصر والقادر على سفك دم أعدائه قائلاً: ماذا تظنون أني فاعل بكم قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فانتم الطلقاء. هذا هو نبينا، هذا هو ديننا، إن جهادنا أيها السادة لإنقاذ البشرية من الظلمات إلى النور ألا فانظروا أيها المسلمون، انظروا أيضا أيها المغرضون، ماذا كانت نتيجة هذا الفتح الرحيم وهذا العفو الكريم لقد حمل هؤلاء الطلقاء بعد أن أسلموا مع إخوانهم المهاجرين والأنصار ومن أسلم من عرب الجزيرة حملوا الإسلام بعد بضع سنين إلى الشام ومصر والعراق وفارس وغيرها ثم حمل أولادهم الإسلام إلى الشمال الإفريقي والأندلس وبلاد السند وبلاد ما وراء النهر، فهل كانت البشرية تقبل على الدخول في دين الله أفواجا، لو انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من البلدان التي فتحوها بل وهل كانت ستحافظ الشعوب التي اعتنقت الإسلام على دينها بعد زوال سلطان الإسلام عنها إلى يومنا هذا لو انتقم المسلمون منها بل وهل تنكر شعب اعتنق هذا الدين لهذا الدين بعد انحسار سلطان وزوال حكم الإسلام عنه. لم يحدث هذا في الكرة الأرضية أيها السادة وما حصل في الأندلس من زوال حكم الإسلام لم يحصل إلا بالحديد والنار ومقاصل الجلادين ومحاكم التفتيش، قارنوا إن شئتم بين انحسار ظل الاستعمار عن البلاد المستعمرة وبين انحسار حكم الإسلام عن البلاد التي حكمت بالإسلام والإجابة أتركها لكم.
هكذا كانت سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة فكيف كانت سياسته في تطبيق الأحكام واستمالة القلوب والمحافظة على رابطة الأخوة بين المسلمين.
لقد سلك صلى الله عليه وسلم في سياسته في تطبيق الأحكام سلوكا مدهشاً، يعفو عمن هو جدير بالعفو ويحزم ويعاقب من ليس جديرا بالعفو، لقد عفا عن أهل مكة كما قلنا كما عامل بعض المنافقين معاملة حسنة تخضع الصخر الأصم تنم عن بعد نظر وعظمة لا تدانيها عظمة معاملة عزل بها المنافقين عن مركز قواهم فهذا رأس النفاق عبد الله بن أبي أبي وكان قد قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يقصد بذلك أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، يقف ابنه على باب المدينة يقول لوالده والله لن تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله، فبقي خارجها إلى أن أذن له رسول الله وهذا أبو عامر الراهب وقد كان يسمى الفاسق لا يألو جهدا في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحلم عن رسول الله وينادي منادي الجهاد فيهب ابنه حنظلة ثاني أيام عرسه ملبيا نداء الجهاد فيستشهد في غزوة أحد فتغسله الملائكة. ثم يهب ابن حنظلة بعد ذلك بسنين وسنين يقود الأنصار في معركة الحرة فيقتل وهو يقاوم الظلم والظالمين.
أما من ليس جديرا بالعفو فقد عامله عليه الصلاة والسلام بما هو جدير به فلم يتسامح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ارتكب حدا ولم يقبل أن يشفع له أحد، «أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة ….إلى أن قال والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» كما أنه أجلى يهود بني قينقاع، وبني النضير عن المدينة وما حولها، عندما لمس منهم غدرا، ونقضا للعهد، كما عاقب بني قريظة عقابا في منتهى الشدة والصرامة يتلاءم مع فظاعة غدرهم ونقضهم للعهد، عقابا يتحقق فيه قول القائل الجزاء من جنس العمل، بل إنه صلى الله عليه وسلم أمر بتحريق وهدم مسجد الضرار ومطاردة من اتخذه مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المسلمين وارصادا لمن حارب الله ورسوله.
أيها السادة: لا بد من أن نبين بإضاءة من سيرته كيف كان يحل ما يحدث بين المسلمين من شكاوى وقضايا ويبدد بعض الظنون لقد كان صلى الله عليه وسلم حاسما كل الحسم عندما أفسد أحد اليهود بين الأوس والخزرج وذكرهم بأيام الجاهلية كيوم بعاث وقام كل منهم إلى سيفه يريد أن يقاتل أخاه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتي من حكمة وبيان يهدئ روعهم ويسكن الفتنة قائلا: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها منتنة. لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض وذكرهم بجهادهم وإخلاصهم ووفائهم في بيعتهم، إلى أن سكنت الفتنة وأخذ كل منهم يصافح أخاه معتذرا له عما بدر منه.
ونختم هذه الاضاءات بإضاءة رائعة:
بعد أن من الله بالنصر على المسلمين في حنين على هوازن وثقيف وغنم المسلمون منهم غنائم هائلة، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم من خمسه عطاء جزيلا، عطاء من لا يخشى الفقر ولم يعط أحداً من الأنصار وظنوا أن رسول الله سينحاز إلى قومه في مكة وكثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقي رسول الله قومه، فدخل سعد بن عبادة على رسول الله وأعلمه مقالة قومه فقال: أين أنت من ذاك يا سعد، قال:ما أنا إلا رجل من قومي، قال عليه السلام: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فاجتمع الأنصار في الحظيرة فأتاهم رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم. قالوا بلى لله ولرسوله المن والفضل فقال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار قالوا وبماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم ولصُدّقتم: أتيتنا مُكَذّبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت أمرءا من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار, اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا.
هكذا تحل المشاكل وهكذا تبدد الظنون، فاللهم اجعلنا ممن يهتدي بهديك وينصر دينك ونرفع رايتك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو بكر