إضاءات على تاريخ الدولة الإسلامية- سيرة أبو بكر الصديق
وتمضي المسيرة ويظهر الله الإسلام، ويحقق الله وعده بتحقيق نصره للمسلمين ويدخل الناس في دين الله أفواجا فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتدين العرب بالإسلام، ثم يُقْبضُ رسول الله.
صحيح أن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب جلل بل هو أعظم خطب ألم بالمسلمين، كيف لا وقد انقطع الوحي من السماء. ولكن هل بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم تنتهي المسيرة، ويختفي نور الإسلام، وتعود الجزيرة العربية إلى شركها وضلالها، لا وألف لا. فلقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرين لن نضل ما تمسكنا بهما: كتاب الله وسنة رسوله وقد ترك وراءه صلى الله عليه وسلم كتلة الصحابة رضوان الله عليهم وهي أنقى كتلة عرفتها البشرية في تاريخها كله، فماذا حدث بعد ذلك تعالوا معنا نلقي بعض الإضاءات على سيرة أبي بكر في تدبيره لأمور المسلمين.
يتولى أبو بكر أمر المسلمين بعد بيعة الانعقاد في السقيفة وبيعة الطاعة في المسجد ثم يقف خطيباً في المسلمين إذ نعى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تالياً قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144) ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمداًَ فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. ثم بين بإيجاز بليغ بعض سياسته في الرعية بقوله: “وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم” ثم يتولى دفن رسول الله.
يتولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله الذي كان يقوم بجميع الأعباء فكان عليه السلام يتلقى الوحي من الله كما كان يقوم بأعباء الحكم والقضاء ولم يكن أحد يبت في أمر إلا بعد الرجوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يستطيع أبو بكر أن يملأ الفراغ الذي تركه رسول الله؟ لا شك إنه يستحيل على رجل أن يملأ الفراغ الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي وأما غيره فلا يتنزل عليه وحي ولكن أبا بكر قام بأعباء الحكم خير قيام وسلك في تدبير أمور المسلمين سلوكاً رائعاً وقد عمل من الأعمال في عهده الذي استمر سنتين وأقل من أربعة أشهر، عمل أعمالا لا يستطيع غيره أن ينجزها في عقود كيف لا وكان أبو بكر مألفاً محباً للناس وقد ملك عليه الإسلام عقله وقلبه وبدأ رضي الله عنه يحل المشاكل التي واجهته.
لقد بدأ عهده بداية رائعة ورسم طريق حكمه فماذا يفعل في المشاكل التي واجهته؟
لقد كان جيش أسامة خارج المدينة ينتظر الأمر بإنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالخروج للجهاد شمال الجزيرة العربية فقبض رسول الله وأطلت فتنة المرتدين فهل يبدأ أبو بكر عهده بنقض أمر رسول الله بادخار قوة جيش أسامة لمحاربة المرتدين وإلغاء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد رفض أبو بكر مشورة كل من أشار عليه بذلك وأبى أن يبدأ عهده بعدم إنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أسامة بالذهاب إلى حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فغزا أسامة حيث أمر أسامة حيث أُمر ثم عاد مكللا بالنصر.
أما مشكلة المرتدين والتي أطلت برأسها في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأها مسيلمة الكذاب في نجد وأخذ يلملم نجداً حوله، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاقم أمر المرتدين فارتد الكثيرون من أهل اليمن وحضرموت وبعض القبائل العربية حول المدينة، وارتدت كما قلنا بنو حنيفة ثم هوازن، ولم يسلم من الارتداد إلا المدينة المنورة ومكة والطائف وقد كان المرتدون قسمين: قسم اتبع أمر من ادعى النبوة كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي بدواعي العصبية القبلية، إذ كيف يظهر نبي في قريش ولا يظهر نبي في بني حنيفة أو بني تميم أو قبائل اليمن أما القسم الثاني فرفض دفع الزكاة ظنا منه إنما الزكاة لمحمد صلى الله عليه وسلم ومحمد قد مات فلا زكاة لمن يخلفه.
إذن فقد وضع حلف المرتدين على طاولة البحث فكيف يطوى هذا الملف، لقد رأى بعض الصحابة وعلى رأسهم عمر أن يفرق بين من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ اعتبروه كافرا مرتدا يجب إعادته للإسلام وبين من أنكر دفع الزكاة باعتباره فسق وبالتالي في زعمهم لا يجب قتال منكر الزكاة أما أبو بكر رضي الله عنه فقد نظر للمرتدين نظرة ثاقبة كلها وعي وعمق واعتبرهم حالة واحدة فإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تماما كإنكار الزكاة ولا يجب أن يفرق بين الصلاة والزكاة، فمنكر الصلاة ومنكر الزكاة مرتد ومنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مرتد، ويجب محارتهم جميعاً وإعادتهم لحظيرة الإسلام وظل مصمما على رأيه وأخذ يقنع الصحابة إلى أن أقرو بصحة رأيه وقد بلغ من شدة حزمه ودعيه في هذا الأمر مبلغا عظيماً إذ قال: “والله لاقاتلن من يفرق بين الصلاة والزكاة والله لأقاتلنهم بمن وافقني الرأي والله لو عصتني يساري لقطعتها وقاتلنهم بيميني، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدنوه لرسول الله لقاتلتهم عليه” فيا الله أي وعي هذا، وأي تصميم هذا، وأي حزم هذا، حتى إنه قال لعمر: “أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام” فيا الله هل يصدر هذا الحزم وهذا التصميم من رجل مألف محبب كأبي بكر نعم أيها السادة هذا صحابي رسول الله وهذا الصديق بل هذا هو خليفة رسول الله وهذا هو أمير كتلة الصحابة أنقى جماعة بشرية عرفها التاريخ.
ثم يسير الجيوش يقود بعضها بنفسه لا يضيع وقتا ولا ينتظر عودة جيش أسامة ثم أخذ يحشد الجيوش بعد عودة جيش أسامة مكللا بالنصر فيرسل أحد عشر بعثا لحرب المرتدين وعلى رأسهم كبار الصحابة فيرسل خالداًَ وعكرمة وعمرو بن العاص وغيرهم ويأمر بعضهم إن حصلت له هزيمة ألا يري وجهه المسلمين خوفا من أن يفت ذلك بعضدهم، وما هي إلا أسابيع ويصاب عكرمة بهزيمة ويكاتب أبا بكر فيكتب له أبو بكر لا تريني وجهك إلا منتصرا فيغادر عكرمة نجد إلى عمان فيحقق النصر وما هي إلا شهور حتى تكللت جيوش المسلمين بالنصر وعادت الجزيرة العربية إلى إسلامها.
أيها السادة لقد كانت مشكلة المرتدين فظيعة إذ يكفي أن تعلموا أن استشهد في حرب اليمامة وحدها أكثر من ستمائة من حفظة القرآن الكريم فكم كان عدد الشهداء في المعارك الأخرى. إن فتنة المرتدين أظهرت أن المسلمين لا يشق لهم غبار وأنهم متفانون في حمل الإسلام ولديهم طاقات وطاقات تحتاج لأمير واع لاستغلالها وقد كان هذا الوعي جديرا بذلك إنه أبو بكر لقد أظهر المسلمون من الشجاعة ما يفوق الوصف وما خالد والبراء بن مالك وعكرمة وآلاف غيرهم إلا أمثلة ناصعة على ما نقول ومن أراد الاستزادة فلديه كتب التاريخ.
أيها السادة: إن الاضاءات على عهد أبي بكر في قمعه لفتنة المرتدين تبين لكل ذي عين أن دين الله كان أغلى ما لدى المسلمين إذ كيف يتأتى للمدينة ومكة والطائف أن تعيد الإسلام ديناً يعتنقه العرب في زمن قياسي لقد تمخض عن سحق فتنة المرتدين أمرين عظيمين أما الأمر الأول فكان الخوف على القرآن أن يضيع من الصدور لكثرة من استشهد من الحفظة وأما الأمر الثاني فهو أن لدى المسلمين من قوة العقيدة ومن التفاني في حمل الإسلام للعالم ومن شدة البأس ما يؤهلهم لحمل الإسلام بالجهاد لفارس والروم في آن واحد. وقد تمكن أبو بكر من جمع القرآن وقد كان مكتوبا، جمعه في مكان واحد وأناط هذا العمل الكبير لعدد من حفظة القرآن وعلى رأسهم زيد بن ثابت وقد نهضوا بالمهمة على أتم وجه وجمع القرآن في مكان واحد وبهذا أمن المسلمون من ضياع القرآن، والقرآن لن يضيع وسيبقى محفوظاً بحفظ الله تعالى قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)
وأما الأمر الثاني فقد جيش أبو بكر الجيوش فأمر أربعة من كبار قادة المسلمين على أربعة جيوش ووجهها إلى الشام بعد أن أوصى جند الإسلام ألا يغلوا ولا يغدروا ولا يقطعوا شجرة مثمرة ولا يقاتلو إلا المقاتلين وأن يدعوا أقواما حبسوا أنفسهم بالصوامع، هكذا يكون القتال فلا غل ولا غدر ولا نقاتل إلا من يقاتلنا ولا نقتل من حبس نفسه للعبادة سارت هذه الجيوش على بركة الله وقد صادفت نجاحا كبيرا ونصرا عظيما ولكن الروم أجمعوا أمرهم أن يسحقوا المسلمين إذ وسوس لهم الشيطان كيف يجرؤ المسلمون على حربهم وقد كانوا قبل الإسلام عبيدا، كان يتشرف العربي منهم أن يقابل أميرا روميا من الدرجة الخامسة فكيف يجرؤون الآن على تحدي سادتهم وأولياء نعمتهم رغم أنهم رأوا بأسا عظيماً وأمرا جللا وتفانيا من المسلمين ما بعده تفان في مؤتة وفي بعث أسامة فقرر الروم أن يجهزوا جيشا يسحق المسلمين فأدرك المسلمون الخطر الداهم وشاوروا أبا بكر فقر الرأي أن ينحاز المسلمون لليرموك وأمر أبو بكر خالدا بالسير عاجلا من العراق إلى الشام لوضع الأمور في نصابها وملاقاة الروم في معركة لها ما بعها فنهض خالد بالمهمة وانتقل إلى الشام ووصلها في ومن قياسي لا يزال المؤرخون والقادة العسكريون حيارى من سرعة وصول خالد، وبعد أيام وأيام يلتقي الجيشان في اليرموك جيش الروم وبأعداد تقارب الثلاثمائة ألف والمسلمون أقل من أربعين ألفا يلتقي الجيشان في اليرموك وينزل الله نصره على المسلمين وقد كان أبو بكر قد انتقل إلى الرفيق الأعلى والمسلمون يقاتلون أعداءهم فتم النصر في أوائل عهد عمر.
أما الفرس فقد وجه أبو بكر قوات كبيرة إلى العراق يقودها المثنى ثم أتبعه خالدا فأصبح خالد على رأس المجاهدين في العراق قبل أمره بالانتقال إلى الشام وقد حرص أبو بكر رضي الله عنه أن يكون الفتح رحيما في الشام والعراق ولهذا أبى أن يشارك في الجهاد كل من أصابته لوثة الردة حرصا منه على نقاء المسلمين ونقاء الجهاد وليبعد كل شبهة عن الجهاد للمغانم أو لبسط السيطرة والنفوذ ورغم أن من أصابتهم لوثة الردة كانوا عددا كبيرا إلا أن هذا لم يجعل أبو بكر يغير رأيه فكان له ما أراد فانطلق الجمع المبارك كما قلنا إلى فارس وعقدت للمسلمين ألوية النصر رغم المقاومة الضارية التي أبداها الفرس وظل الأمر على حاله لم يجاوز المسلمون الفرات شرقا إلى أن جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومرت مدة كافية على من تلوث بالردة وحسنت توبتهم فأمر ابن الخطاب بإشراكهم بشرف الجهاد فجيش الجيوش وأرسل سعداً وحشد المسلمون جمعهم في القادسية وسار الفرس بجمع كبير للقادسية وكان هذا كما قلنا في عهد عمر.
هذا تاريخكم أيها السادة، ألا فلتعلموا يا شباب الإسلام أن البشرية بحاجة لكم، إن البشرية تناديكم أن قد ظهر الفساد في البر والبحر فمن يقمع الفساد إلا أنتم ومن ينقذ البشرية إلا أنتم؟ ومن يرفع راية هذا الدين إلا أنتم؟ إن أجدادكم كما رأيتم حملوا الإسلام بالجهاد لأعظم دولتين في العالم في آن واحد لا يبتغون إلا رضوان الله وهم مدركون إنما هي إحدى الحسنين: إما النصر أو الشهادة فلقد تكفل الله لمن يحمل هذا الدين بصدق بالنصر قال تعالى: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: من الآية47) فهبوا أيها المسلمون هبة رجل واحد واستأنفوا الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة توحدون بها صفوفكم وتلمون بها شعثكم والله إن هذا لهو الشرف العظيم وهو عز في الدنيا وفوز في الآخرة فلمثل هذا فليعمل العاملون ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو بكر