إضاءات على تاريخ الدولة الإسلامية- سيرة عمر بن الخطاب
إن من يتصدى للكتابة عن تاريخ المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين لا يستطيع أن يمر مرور الكرام على عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا يستطيع أن يتعامى عن البصمات التي تركها وتركها الصحابة المعاصرون على التاريخ البشري، فلقد تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة بالبيعة بعد أن ألح الصحابة رضوان الله عليهم على أبي بكر بترشيح واحد منهم يسوسهم كما ساسهم وبعد مشاورات أهل الرأي منهم وقع اختياره على عمر رضي الله عنه.
إذن تولى عمر رضي الله عنه الخلافة بعد وفاة أبي بكر مباشرة برضى الصحابة فجيوش المسلمين في العراق والشام تحتاج إلى من يمدها تحتاج إلى من يشير عليها ولهذا لا مجال للتنازع على الخلافة وإضاعة يوم أو أيام لاختيار خليفة. كذلك إن من يتصدى للكتابة عن تاريخ المسلمين في هذا العصر يستحيل عليه إلا أن يشير لمعركة اليرموك في الشام والقادسية في العراق.
يتولى الفاروق المسؤولية ويستعرض وضع الجهاد في الشام والعراق، أما الشام فقد كفاه أبو بكر رضي الله عنه الحشد للمعركة الفاصلة في اليرموك ولكن اشتعال المعركة والنصر فيها كان في عهد عمر فلا بد إذن من استعراض ما حدث في اليرموك ليعلم شباب المسلمين وتعلم الدنيا كلها كيف تكون التضحية وكيف يكون الإقدام وكيف يفعل الإيمان بهذا الدين في نفوس معتنقيه.
لقد فعل المجاهدون في الشام في اليرموك وغيرها أفعالا تقترب من المعجزات جيش من المسلمين يقل عن الأربعين ألفا ينتصر على جيش أعظم دولة في العالم آنذاك كانت تملك من الخبرة والموارد والعَدد والعُدَد ما لا يقارن بعَدد المسلمين وعُددهم وموارد لا تقارن بموارد المسلمون، فالمسلمون كانوا يعيشون في صحراء شبه قاحلة وعددهم بضعة ملايين والروم يسيطرون على مناطق شاسعة غنية بمواردها فآسيا الصغرى وبلاد الشام ومصر ولايات غنية بمواردها مزدحمة بسكانها ويحكم الروم حاكم خبير قضى ثمانية أعوام لم ينزل عن صهوة جواده وهو يقارع الفرس.
فماذا فعل المسلمون في اليرموك؟ تولى خالد القيادة في اليرموك وعبأ جيش المسلمين، والتحم الجيشان وحمي الوطيس، المشاة ضد المشاة، والفرسان ضد الفرسان فلما رأى خالد بعض الاضطراب في مكان ما من المعركة أمر فرسانه بالانقضاض على جيش الروم والتحم الجيشان مشاتهم وفرسانهم ولما أصبح الجيش الإسلامي في وضع خطر صاح عكرمة بن أبي جهل قائلاً من يبايعني على الموت فبايعه أربعمائة من فرسان المسلمين وانقضوا على الجيش الرومي وأذاقوه من الأهوال ما لاقاه جيش الروم في معركة مؤتة، فهرب فرسان الروم وفتح لهم المسلمون فجوة ليهربوا منها فهزموا لا يلوون على شيء وأنزل الله نصره على المسلمين.
لقد فعلها عكرمة إذ بايع أصحابه وبايعه أصحابه على الموت وقد فعلها قبلهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وغيرهم في مؤتة، وقد فعلها فيما بعد مسلمون ومسلمون فعلها طارق بن زياد وعقبة بن نافع، فعلها ألب أرسلان في ملاذكرد إذ بايعه على الموت أكثر من عشرين ألفا وقد فعلها شباب العثمانيين، بايزيد العثماني في معركة أنقرة ومراد الأول في قوصوة وآلاف من العثمانيين في كل معركة خاضوها لرفع راية الإسلام في أوروبا وفعلها شباب الإسلام في العصر الحاضر في فلسطين وأفغانستان والعراق والشيشان وسيبايع شبابنا مستقبلا أنفسهم على الموت على أبواب الأقصى وعلى أبواب روما فأية أمة يبايع شبابها على الموت إنها أمة الإسلام فحسب.
لقد كان لنصر اليرموك أثر كبير في فتح الشام ومصر فيما بعد، مما أجبر هرقل على القول في أنطاكية وقد صعد ربوة عالية: وداعا لك سوريا الحبيبة لا لقاء بعده.
إن المتتبع للأحداث أيها السادة يقرر أن نصر المسلمين في اليرموك كتب قبل ذلك في مؤتة وفي تبوك لقد رأى الروم في مؤتة أهوالا لم يعرفوها رغم كثرة حروبهم، رأوا شباب الإسلام يقدمون على الموت كإقدام الروم على الحياة رأوا كيف أقدم زيد بن حارثة على الموت غير هياب ولا وجل حتى استشهد، ورأوا كيف عقر جعفر بن أبي طالب فرسه ونزل عنها يضرب يمينا ويسارا غير آبه بكثرة الروم ولا بشدة ضرباتهم حتى استشهد، ورأوا ابن رواحة وهو يقدم إقدام الأسد الهصور غير هياب ولا وجل كما رأوا خالداً وهو يحسن القيادة فيتقدم حينا ويتأخر حينا مما تقتضيه ظروف المعركة ويتصرف تصرف القائد المجرب إذن لقد تقرر مصير اليرموك في مؤتة وفي تبوك إذ لما رأى الروم إقبال واستبسال المسلمين وهم قلة في مؤتة، فكيف سيكون إقبالهم واستبسالهم في تبوك لو التقوا بهم وبخاصة وعددهم يزيد عن عشرة أضعاف جيش مؤتة ويقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا لا غرابة في تقييد الروم جنودهم في اليرموك بالسلاسل خوفا من هربهم من المعركة وقد كان تقييدهم وبالا عليهم فقد أهلكت هذه القيود أكثر من خمسين ألف من جنودهم.
إذن يحق لنا ويحق لكل مؤرخ أن يعتبر اليرموك من المعارك الفاصلة في التاريخ، إذ أن هذه المعركة قررت مصير الشام ومصر بل وقررت أية مواجهة بين المسلمين والروم ولهذا سرعان ما فتحت الشام كلها ثم مصر فيما بعد، إذ أن المعارك بعد اليرموك كانت أقل منها ضراوة وما معركة أجنادين ومعركة فحل ودمشق وقيسارية وفتح بيت المقدس إلا معارك بسيطة كانت نتائجها محسومة مقارنة باليرموك.
أما القادسية فهي المعركة الحاسمة والفاصلة الأخرى على أرض العراق بين المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص والفرس بقيادة رستم وقد جرت قبل استعار المعركة اتصالات ومفاوضات بين المسلمين والفرس فقد أجاد المغيرة بن شعبة كما أبدع ربعي بن عامر في إبلاغهم وجهة نظر المسلمين بكل عزة وأنفة وإخلاص، وما رده الحاسم على رستم، وقد ظن أن المسلمين إنما يريدون مالاً، رد عليه بكل حزم قائلاً: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا الآخرة.
وكما حدث في اليرموك حدث في القادسية، جيش المسلمين أقل من أربعين ألفا وجيش الفرس يقارب الثلاثمائة ألف، وإمكانات الفرس المادية هائلة ولكن إيمان المسلمين وتفانيهم في حمل الإسلام لا يحده حد، ولئن كانت اليرموك هائلة في نتائجها فكذلك كانت القادسية ولكن القادسية كانت أشد ضراوة بل لقد قاوم الفرس معاركهم كلها المسلمين مقاومة ضارية، وما حشده الفرس في القادسية كان أعظم وأوفر من حشد الروم في اليرموك، يكفي أنهم حشدوا عددا من الفيلة التي كانت خيول المسلمين تفر منها لأنها لم تعتد على رؤيتها من قبل كما ظلت المعركة مشتعلة ثلاثة أيام وظلت الحرب مشتعلة ليلاًً، ولقد صادف الجيشان شدة وأهوالا وضراوة ليلة الهرير ما لا تحتمله الجبال الراسيات، إلى أن من الله على المسلمين بالنصر وكما أنجد خالد بن الوليد وعدد من مجاهدي المسلمين في العراق أنجدوا المسلمين في الشام كذلك بعد اليرموك أنجد عدد من مجاهدي المسلمين في الشام أخوانهم في العراق ولئن كان فعل خالد مميزا في الشام كذلك كان فعل القعقاع قائد نجدة المسلمين للعراق كان فعله مميزا فيكفي أنه رسم خطة لإبعاد الفيلة عن ميدان المعركة ويكفي أنه رسم خطة لقتل رستم.
لقد أظهر أجدادكم أيها الشباب في القادسية من البطولات النادرة والتفاني العظيم ما يخلد ذكرهم أبد الدهر، وما يجعلهم أسوة لكل من طلب الجهاد فهذه قبيلة بجيلة وكان عددها ألفين تصمد أمام أربعة وخمسين ألفاً من الفرس أكثر من يوم ونصف قبل أن بدأت تتضعضع ميمنتها ولقد قدمت في هذه المدة القصيرة أكثر من 600 شهيد، كلهم من بجيلة ولم تلن لهم قناة ثم طلب من قبيلة أسد نجدة أختها بجيلة ففعلت إلى أن دخلت الفيلة الميدان وأخذت خيول المسلمين تنفر منها فتتولى تميم نجدة أسد وبجيلة فيرسم شباب تميم بقيادة القعقاع خطة للنصر خطة لإبعاد الفيلة وهي رمي الفيلة بالسهام في عيونها، إذ يستحيل على الرمح أو السيف أن يؤثر في جلود الفيلة ولم تكد السهام تصيب عيون الفيلة حتى تنفر فتلقي ما عيه وتحدث جلبة وفوضى كان لها أثر في تضعضع جبهة الفرس ثم يرسم الخطة المحكمة لقتل رستم فيتم ذلك بعد ليلة الهرير، أيها السادة لقد كانت ليلة الهرير من الفظاعة ما أنسى المسلمين التكبير ولكن الإخلاص الخالص والتفاني الهائل وقبل كل ذلك التوكل على الله كل ذلك جعل المسلمين مؤهلين لنصر الله (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) لقد ولى الفرس الأدبار وأخذ المسلمون يطاردونهم من مكان إلى مكان حتى لاذوا بعاصمتهم المدائن، ثم حاصرها المسلمون وفتحوها ثم تبعهم المسلمون إلى جلولاء ونهاوند وتستر وغيرها.
وأصبحت العراق وبلاد فارس في أيدي المسلمين وأصبحت الأرض تميد تحت أقدام ملوك الفرس وظل الفرس يقاومون وينهزمون حتى تم القضاء على آخر ملوك الفرس في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
إذن هذه هي اليرموك وهذه هي القادسية وهذا هو الفاروق ولكن ومع عظمة هذه الفتحين، فتح الشام والعراق في عهد عمر رضي الله عنه إلا أنه لا بد من ذكر بعض الإضاءات على عهد عمر وكيف نظم هذه الولايات الجديدة وكيف كان شديد اليقظة بارع المحاسبة لولاة المسلمين وما هو أثر ذلك كله على دخول الناس في دين الله أفواجا.
إنه على الرغم من ثقل الأعباء التي بذلها عمر والمسلمون في الجهاد إلا انه كان لهم بصمات عظيمة أخرى في ميادين الإدارة فلقد كان عمر رضي الله عنه نعم الحاكم الذي كان شديدا على أهل الباطل رحيما بأهل الحق.
لقد كان رأي عمر أن يكون على رأس الجيش الإسلامي في العراق والشام ولكن أهل الرأي من الصحابة نصحوه بعدم فعل ذلك لأنه لو هزم المسلمون وهو على رأسهم لصعب على من تبقى من المسلمين نجدة أخوانهم لأن نجدة المسلمين لا بد لها من تدبير على أعلى مستوى وهو تدبير الخليفة ولهذا كان عمر يطلب من قادة جنده في العراق والشام ومصر أن يصفوا له الأماكن التي يعسكرون فيها والتي ينوون القتال فيها كأنها مرسومة أمامه فيوجههم مركزا على تقوى الله وعلى أن لا يغرر بالمسلمين وألا يستهان بالعدو وأن من يطلع على المراسلات اليومية بينه وبين يعد بن أبي وقاص في العراق ليجزم أن قيادة عمر للأمة كانت قيادة فذة يندر أن يُحْظو بمثلها.
ولما من الله على المسلمين بالنصر في الشام وقد حاصروا القدس وطلب منهم بطريرك القدس أن يسلم المدينة للخليفة عمر فينهض عمر للشام دون أبهة أو خيلاء، ينهض لا يرافقه إلا خادمه يسير هو وخادمه راكب فإذا تعب ركب عمر وقاده خادمه ولقد رآه الروم وهو يقود خطام جمله والخادم راكب فأي تواضع هذا وأية عظمة هذه، اقرأوا هذا يا حكام المسلمين في العصر الحاضر يا من نصبكم الكافر المستعمر على رقابنا فلم يحققوا لنا أمنا ولم يحققوا لنا عزا ولم تحموا ثغورا ولم تدافعوا عن كرامتكم وكرامة من تحكمونهم لقد أذقتمونا كؤوس الذل فاستعبدتم رقابنا ونهبتم أموالنا وجعلتم بلادنا نهبا لكم ولأسيادكم وأركبتم أولادكم رقابنا وقُدْتُمونا من هزيمة إلى هزيمة ومن ذل إلى ذل دون حياء أو خجل وليس هذا فحسب وإنما حكمتمونا بشريعة الكفر وفتحتم بلادنا ومياهنا وأجواءنا وينابيع الخيرات في بلادنا للعدو كل هذا قدمتموه للعدو لتبقوا علينا حكامنا بل أشباه حكام ترضون بالتضحية بكل ذلك مقابل كرسي حكم ذليل، اقرأوا إن شئتم كيف تقدم عمر إلى الشام فاستلم القدس بعد أن أعطى نصارى القدس العهدة العمرية التي لا يزال النصارى يذكرونها بالخير ويتمنون أن تطبق بنودها عليهم، اقرأوا عن عمر إن شئتم كيف نظم البلاد والعباد بعد مؤتمر الجابية بالشام بل اذكروه أيضا كيف كانت يعف عن بيت مال المسلمين وكيف كان يرعى المجاهدين وأطفال المجاهدين في غيبة آبائهم وكيف كان رفيقا على الرعية في عام الرمادة وكيف كان يباشر بنفسه توزيع الطعام على الرعية بل كيف كان يرعى أطفال المسلمين وبخاصة الأطفال الرضع وكم ندم رضي الله عنه لأنه لم يخصص للأطفال الرضع من المسلمين خراجا يكفيهم فأخذت النساء تُعجّل في الفطام مما سبب العناء والضيق للرضع فعندما علم ذلك خصص خراجا للرضع من أطفال المسلمين.
اقرأوا أيها الرويبضات إن شئتم كيف كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حاسماً في معاقبة ابن الأكرمين ابن عمرو بن العاص الذي لطم شابا قبطيا سبقه في ميدان السباق مما كان من عمر إلا أن سمع حجة القبطي وحجة ابن عمرو بن العاص فلما علم أن القبطي على حق أمره بجلد ابن الأكرمين وإن شاء يجلد والده عمرو بن العاص هذا هو العدل وبهذا تقوم السموات والأرض وبهذا ينتصر المسلمون رغم قلة عددهم وعُدَدَهم.
اقرأوا أيها الشباب كيف دخل أجدادكم المجاهدون القدس بعد العهدة العمرية فلم يلتفتوا لامرأة ولم يأخذوا حاجة من متاجر القدس المشرعة الأبواب رغم أنهم منتصرون ورغم أنهم قادرون، عندها أيقن حاكم القدس النصراني أنه لا قبل له بمقاومة المسلمين وأنهم أهل لأن يحكموا الدنيا فهم أهل العدل وهم الجديرون بكل خير بل إن النصارى قبلوا طواعية أن يسلموا مفتاح كنيستهم الكبرى للمسلمين ينظمون دخول النصارى للتعبد فيها لأنهم أهل العدل لا تأخذهم في الله لومة لائم.
بل اقرأوا أيها الرويبضات إن شئتم كيف كان رد عمر حاسما عندما عرض عليه أحد الحاضرين أن يتولى ابنه الخلافة بعد أن طعنه المجوسي، اقرأوا أيها الرويبضات الخطة التي وضعها الفاروق لاختيار خليفة بعد موته، اقرأوا أيها الرويبضات إن شئتم مكانة الخلافة في الإسلام ومكانة أن يكون المسلمون في دولة واحدة يُحكمون بشرع الله في خطة الفاروق لاختيار خليفة. لقد أظهرت الخطة أن وحدة المسلمين أغلى من دماء الصحابة إذا ما تأخروا عن بيعة خليفة لقد أدرك رضي الله عنه هذا، أدرك أن الخلافة والحكم بما أنزل الله لا يقل أهمية عن الهواء الذي نتنفسه والغذاء الذي نأكله فلا استقرار دون أمن ولا عظمة دون عدل وليس هناك عدل إلا إذا طبق شرع الله وساد حكم الله البلاد والعباد.
فاللهم اجعلنا ممن يتفانى في سبيلك، يرفع رايتك لتكون كلمة الله هي العليا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو بكر