أيها المسلمون في لبنان- أنتم آثمون لسكوتكم على الظلم الذي تمارسه الدولة بحق المخيمات
منذ أن وقع أهل فلسطين ضحية للمؤامرة الدولية والإقليمية بتسليم أرضهم إلى شذاذ الآفاق يهود لحشدهم في أرض الإسراء، وهم يقاسون الإذلال ومرارة التـرحال وشظف العيش. فقد أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق ليُحشروا في مخيمات لا تتوفر فيها أدنى متطلبات الكرامة الإنسانية، ولاسيما في مخيمات لبنان.
ولم يقتصر الأمر على التشريد وضياع السكن وشظف العيش، وكأن هذه المعاناة لا تكفيهم، فإذا بالتدابير السياسية والأمنية التي تعتمدها الأنظمة العربية تفاقم مأساتهم، فقد عوملوا بوصفهم أجانب يشكلون خطراً على التـركيب “الديموغرافي” أو على الأنظمة الحاكمة، وكانت أحوال اللاجئين أسوأ ما كانت عليه في هذا البلد لبنان. إذ وقع هؤلاء اللاجئون ضحية الأعراف الطائفية وانقساماتها، إذ وجدت فيهم بعضُ الطائفيات السياسية خطراً على ما سمّوه بالتوازن الطائفي، فأخضعتهم السلطة لقوانين تحرمهم أبسط الحقوق الإنسانية، كحق العمل والتكسّب في عدد من المهن، ثم استحدثت قوانين تحرمهم حق التملّك.
وفي خضم النزاع اللئيم بين الأجهزة (الأمنية!) المحلية والإقليمية التابعة لطرفي النزاع في هذا البلد، وقع مخيم النهر البارد ضحية العبقرية الخبيثة التي تفتق عنها ذهن بعض المتصارعين، بأن يحشد عشرات الشبان المتحمسين من بلدان عدة في المخيم ليتخذهم ورقة ضغط أمنية على الفريق الخصم. فكانت النتيجة أن شُرّد أهل المخيم ودمرت دورهم، والأنكى هو تحميلهم مسؤولية المؤامرة التي كانوا ضحيتها ومعاملتهم معاملة الجناة!! وها هم سكان المخيم يعانون منذ سنتين ونصف السنة مرارة التشريد والتهجير. ومن سُمح له بالعودة إلى داره أو بقية داره لا يسمح له أن يدخله إلا بعد وقوفه ساعات ذليلاً عند حواجز التفتيش، ولا يسمح له بدخول داره إلا بتصريح يذكّر بتأشيرات الدخول المفروضة على العابرين للحدود المصطنعة داخل أرض الأمة الواحدة. وها هي سائر المخيمات تعيش تحت الحصار ويؤرقها كابوس تكرار مأساة النهر البارد.
وبعد مضي سنتين ونصف السنة على انطلاق سلسلة الوعود بإعادة إعمار المخيم، لم يُبن حجر واحد حتى الآن، وبدل أن تتضامن الجهود لدفع عملية الإعمار وإيواء المشردين، أقدم التيار الوطني الحر في خطوة لاستعراض العضلات الطائفية على تعطيل أعمال إعادة البناء من خلال دعوى قضائية بذريعة الحفاظ على الآثار المجاورة لمنطقة الإعمار، علماً بأن جميع المتابعين يدركون تمام الإدراك أن هذه الخطوة تحدوها الدوافع الطائفية التي يسمونها بعبارة مخففة التوازن السكاني أو الديموغرافي. فإذا بها جريمة جديدة ترتكب بحق هؤلاء البؤساء بعد مأساة تدمير المخيم.
أيها الناس:
إن القابع وراء هذا التمييز العنصري الذي يقاسيه اللاجئون من أهالي المخيمات وغيرهم هو مجموعة المفاهيم والأعراف والقوانين المعتمدة في هذا البلد، والتي تتعارض كلياً مع الشرع الإسلامي الذي حفظ كرامة الإنسان، فقال تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }. ففكرة الوطنية التي صنّفت الناس على مقياس الحدود السياسية والأقطار المصطنعة التي أقامها الاستعمار في بلدنا، أدت إلى هذا التمييز المَقيت بين لبناني وفلسطيني وسوري وعراقي… فأمسى أهل فلسطين أجانب في لبنان وبات أهل لبنان أجانب في الكويت وبات أهل سوريا أجانب في الأردن… فحُرم اللاجئون من فلسطين من الحقوق التي اكتسبها من يحمل أوراق الجنسية اللبنانية وعوملوا بوصفهم مقيمين أجانب.
إن فكرة الوطنية هذه تتعارض مع الإسلام الذي جعل المسلمين أمة واحدة، فقال تعالى: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». وقد امتدح الله تعالى الأنصار الذين آووا إخوانهم المهاجرين إليهم من مكة وغيرها، فقال: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَـٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰۤئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. وهكذا يجب أن يكون مسلمو لبنان في تعاطيهم مع إخوانهم من أهل فلسطين، فهم ليسوا ضيوفاً علينا، بل نحن وإياهم نعيش في بلاد المسلمين، والتي لا نعترف بشرعية سايكس بيكو التي قسمتها كيانات مصطنعة.
إن القوانين والأعراف الطائفية اللبنانية أدت إلى الانتقائية في منح الناس الجنسيات، فيعطى بعضهم ويحرم بعضهم الآخر بناء على ما يسمونه التوازن الطائفي، ما يؤدي إلى إيقاع الظلم بحق الناس لمجرد أنهم يُنسبون إلى طائفة دون أخرى. وهذه الطائفية السياسية هي من أعظم مظاهر الظلم والتمييز العنصري في هذا البلد. فبينما ترتفع أصوات مطالبة بمنح الجنسية اللبنانية أناساً ولدوا من آباء بل من أجداد هاجروا من هذا البلد منذ أجيال وانقطعت كل صلة لهم به حتى نسوا لغته، لتمكينهم من التصويت في الانتخابات، تحرم أجيال ولدت وعاشت في هذه البلاد من أدنى حقوق الكرامة الإنسانية.
أما الشرع الإسلامي فقد أمر بأن يُعدّ كل الناس المقيمين إقامة دائمة في دار الإسلام رعايا لهم كامل حقوق الرعاية، بناء على التابعية للدولة سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، لأن الدولة الإسلامية تنظر إلى رعيتها باعتبارها كتلة إنسانية واحدة، وليست مكونة من عرقيات أو وطنيات أو مذاهب أو…
إن الذريعة التي يتذرع بها بعضهم لحرمان اللاجئين من فلسطين وأبنائهم من حق الرعاية التي يتمتع بها حملة الجنسية اللبنانية هي التمسك بحق العودة والوقوف في وجه مخططات التوطين، وهذه ذريعة غير مقبولة ولا بشكل من الأشكال. ذلك أن قضية فلسطين ليست قضية لاجئين، وإن كانت مأساة اللاجئين من مفاعيلها. وإنما قضية فلسطين هي قضية أرض إسلامية اغتصبها اليهود بمعاونة الدول الكبرى، فالواجب هو إعادة فلسطين إلى الأمة، ومن ثم إعادة الممتلكات والدور المسلوبة إلى أهلها وتمكينهم من العودة إليها، فإن شاؤوا عادوا وإن شاؤوا بقوا حيث هم، لأن أرض المسلمين واحدة لا تفرّق بينها حدود مصطنعة وطنية كانت أو قومية. وإن العمل على إرجاع الحقوق المسلوبة إلى أهلها لا يبرر حرمانهم من حقوقهم التي يتمتع بها سائر إخوانهم في سائر البلاد. وإن آخر ما يهمّ اللاجئين هو أن يحملوا أوراق الجنسية اللبنانية وأن يذهبوا إلى صناديق الاقتراع، إلا أنهم بكل تأكيد يتطلعون إلى أن يعاملوا بالسوية مع سائر إخوانهم الذين يحملون أوراق الجنسية في حق الأمن والتعليم والطبابة والسكن والعمل والتملك وسائر شؤون المعاش.
لذلك نقول بكل وضوح وصراحة وصرامة: إن الاضطهاد والتنكيل والتمييز الذي يمارس بحق اللاجئين من أهل فلسطين وأبنائهم هو جريمة عظيمة يجب أن يوضع لها حد على الفور، بل وأن يعاقب مرتكبوها في الدنيا، قبل عقاب الله تعالى في الآخرة، { يَومَ لا يَنْفعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللهَ بقلبٍ سَلِيمٍ }.