إضاءات على تاريخ الدولة الإسلامية- الزّنكيون
لله در القائل “لا تعرف قيمة الشيء إلا عند الحاجة إليه” وكذلك (لا تعرف قيمة الرجال إلا عند الحاجة إليهم) ولعلنا بحاجة لهذا القول في العصر الحاضر، ولعل هذا القول ينطبق على الأمراء الزنكيون، فنحن في العصر الحاضر، بحاجة إلى الرجال الرجال، ليتولوا قيادة المسيرة إلى العز والنصر، كما فعل الزنكيون الذين عاشو في عصر كانت الأمة بحاجة إلى الرجال الرجال، فكان الزنكيون كذلك، وإنه وإن كانت فترة حكم الزنكيين قصيرة، وإنهم وإن كانوا أيضاً امتدادا للسلاجقة، إلا أن الزنكيين بجميل فعالهم، يحق لهم أن يسلط الضوء عليهم وعلى عظمتهم وعلى أمجادهم، وبخاصة العصر الذي عاشوا فيه، يوم أن وصلت دهشة الأمة ذروتها، يوم أن وقفت الأمة حائرة، ماذا عساها فاعلة، بعد ان حقق الصليبيون نصرا كاسحاً في بلاد الشام، وشمال العراق وكونوا أربع إمارات صليبية على رأسها مملكة القدس، هذا كان حال الأمة وهذا الوقت الذي ظهر فيه الزنكيين، يرصون الصفوف ويجمعون الجموع، يرفعون راية الجهاد، فمن هم الزنكيون؟ وما هي قصتهم؟
الزنكيون أيها السادة اتابكة من اتابكة السلاجقة، والأتابك معناها مربي أولاد السلاجقة، وهو لقب سلجوقي كان يطلق على من يظهر كفاية في ميدان الجهاد، وإدارة دفة الحكم، في إمارة من إمارتهم، وقد أطلق هذا اللقب على والد عماد الدين زنكي، الذي أظهر كفاية ومقدرة فائقتين في المهمات التي أسندها له السلاجقة؟ ودفع حياته ثمناً للإخلاص لأمرائه فقدر له السلاجقة هذا الصنيع، فإعتنوا بولده عماد الدين زنكي، فعينوه أميراً على الموصل. كان عماد الدين زنكي يتمتع بمزايا حسنة لكنه كان أميرا عاديا قبل أن يتعرض للموقف التالي:
خرج عماد الدين زنكي للصيد مع عدد قليل من مرافقيه، في إحدى غابات الموصل، فهطلت أمطار غزيرة، أجبرته وصحبه على المبيت ضيفا على شيخ عجوز، ترافقه ابنته وغنيمات قليلة، أكرم الشيخ وفادة ضيوفه كعادة المسلم وبعد أن تناول الضيوف طعامهم سألهم الشيخ عن أمرهم فأجابه عماد الدين زنكي، إنه أمير الموصل وما خرج إلا لمتعة الصيد، سمعت ابنة الشيخ حديث أبيها مع أمير الموصل فاستأذنت من أبيها بالكلام واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم ثم قالت: من أي الرجال أنت؟ من أي طينة أنت؟ أأنت أمير الموصل؟ لا هم لك إلا اللهو بالصيد والقنص، والمسلمون في شمال العراق والشام، يذبحون من الوريد إلى الوريد؟ ألم تسمع ما اقترفه الصليبيون في القدس، وطرابلس وانطاكية والرها وما حولها، أين شرفك؟ أين نخوتك؟ أين كرامتك؟ تصطاد الأرانب والغزلان والصليبيون يصطادون شباب الإسلام. قالت أختنا كل هذا ولم ينهرها أبوها. قالت أختنا هذا ولم ترهب سطوة أميرها أمير الموصل، قالت أختنا هذا ولم يقاطعها أمير الموصل، قالت أختنا درراً، وأميرنا مطرق برأسه ولسان حاله يقول ليت أمي لم تلدني، إذا كان هذا قول راعية شياه فماذا يقول سائر الناس؟
وفي الصباح الباكر بعد أن أقلعت السماء عن المطر، عاد إلى إمارته وكأنه كان يقول في طريقه اليوم خمر، وغدا أمر. عاد عماد الدين إلى إمارته، ولكنه كان غير عماد الدين يوم أن خرج للصيد قبل بضعة أيام، ومنذ ساعة وصوله الإمارة قرر أن يبدأ حياة جديدة، فأمر بتدريب الجند، وحشد القوى، وشراء الخيول والسلاح، والاستعداد لجهاد الصليبيين، أقبل شباب الموصل على أمر أميرهم بكل رحابة صدر، وما هي إلا أيام وأيام، حتى أصبحت جيوش الإسلام تنتقل من نصر إلى نصر تفتح هذا الحصن الصليبي وتدمر الآخر إلى أن ضربت حصارا شديدا على الرها مما أجبرت الصليبيين على الإستسلام، تخيلوا أيها السادة فرحة المسلمين بعد أكثر نم ربع قرن، لم يذوقوا فيه طعم العزو النصر، تخيلوا أيها السادة مكانة عماد الدين في نفوس رعاياه بعد هذا النصر، تخيلو أيها السادة دهشة أوروبا بعد سقوط الرها في أيدي المسلمين، ولكن الله جل شأنه أبى إلا أن يختار عماد الدين شهيداً ليتولى دفة القيادة ولده نور الدين محمود زنكي الذي كان أقوى من أبيه شكيمة، كما كان أعظم من أبيه في ميادين القيادة والإدارة وأوسع من أبيه أفقاً فقد فم بفطنته أن الصليبين لن يسكتوا عن سقوط الرها، وإن أوروبا وبابا روما سيرسلون حملة صليبية،فقرر أن يوحد قوى المسلمين، فسار إلى حلب وضمها فأصبحت شمال العراق وشمال الشام في يده، وبهذا اقترب أكثر وأكثر من ميدان الجهاد والصراع فأصبح في قلب المعركة في الشام، وكان الصليبيون لهم الكلمة العليا في الشام بعد الحملة الصليبية الأولى. ولقد صحت توقعاته، فسرعان ما وصلت الحملة الصليبية الثانية أرض الشام ولكن الله شتت شمل هذه الحملة بما زرعه من خلاف بين الصليبيين وبما أظهره المسلمون من رباطة جأش في الجهاد ضد الصليبيين.
أيها السادة: إن أميرنا نور الدين زنكي، عرف طريق الحق ولن يحيد عنه وعرف طريق الجهاد، فصمم على الاستمرار فيه، لقد أظهر أميرنا براعة قد لا تدانيها براعة في التصميم وحسن التدبير ورسم الخطط لسحق الصليبيين فماذا فعل أميرنا؟
1- لقد صمم على إشغال الصليبيين في الشام بغزوات وغزوات فكان يضرب إمارة أنطاكية لينسحب بعدها ليضرب أمارة طرابلس، لقد طبق خطة عظيمة بحيث لا يترك وقتا ليلتفظ الأعداء أنفاسهم وطبق على أحسن وجه ما يسمى في العصر الحاضر بحرب العصابات، إذ أنه لم يكن لديه القوة الكافية لمواجهة الصليبيين في معركة حاسمة.
2- توحيد الإمارات الاسلامية في الشام، فبد أن ضم حلب إلى سلطنته في الموصل انتقل إلى الشام فضم حمص وحماة وبعلبك، وأخيرا ضم دمشق بعد معاناة شديدة وبعد طول انتظار، ضم كل هذه الإمارات دون أن يسفك دما وذلك إلا حرصا منه على رص الصفوف وتأليف القلوب لتكون جبهته الداخلية قوية مقتديا بما فعله رسول الله r في المدينة المنورة بعيد هجرته إليها.
3- كما ضم مصر للشام بعد محاولات ثلاث، وذلك لحصر الصليبيين بين فكي كماشة، فقد أدرك رضي الله عنه ببعد نظره، أهمية مصر، وعظامة مصر، وثروات مصر، التي لا تنضب أدرك كل هذا وسخر كل هذا لتقوية الجيش الإسلامي وإعداده لسحق الصليبيين.
4- كما حرص رضي الله عنه على تفريق كلمة أعدائه، فقد حرص كثيرا على عدم استقرار الدولة البيزنطية، خوفا من توحد كلمة الصليبيين والبيزنطيين ضده فتتعقد الأمور لديه ويصعب عليه حينذاك أن يحارب القوانين في آن واحد.
5-كما كان حرصه على رفعة شأن الخلافة العباسية، وضرورة ضم الشام ومصر للخلافة العباسية، وكم كان رائعا عندما صمم على القضاء على الدولة الفاطمية، إذ سير أسد الدين شيركوه يرافقه ابن أخيه صلاح الدين بحملات ثلاث لضم مصر وإلغاء ما كان يسمى بالخلافة الفاطمية، وقد تحقق له ذلك، بعد تولي صلاح الدين الوزارة الفاطمية في مصر، فما كان من صلاح الدين استجابة لإلحاح نور الدين، من إعلان انتهاء الدولة الفاطمية، وتبعية مصر للخلافة العباسية في بغداد.
6- كما كان اعتماده على رجال أكفياء قاموا بإتمام المهمات التي ألقيت على كواهلهم بكل أمانة وإخلاص، فرجل كأسد الدين شيركوه، كان له الفضل بعد الله في تخليص مصر مما كانت فيه، وضم مصر إلى معسكر المسلمين، بعد أن حاول الصليبيون مرات ومرات أن يضموا مصر إلى مملكة بيت المقدس الصليبية كما كان له ولصلاح الدين دور كبير في سحق كل المحاولات التي قام بها الخونة من وزراء الدولة الفاطمية وقادتها بالاستعانة بالصليبيين على اخوانهم المسلمين، كما كان لهما دور فكري عظيم في القضاء على الفكر الفاطمي الباطني العفن وإعادة الإسلام إلى معترك الحياة في مصر.
ورجل كنجم الدين أيوب والد صلاح الدين كم كان دوره رائعا في ضم دمشق سلما الى السلطنة الزنكية وكان دوره أكثر روعة عندما هدد ولده صلاح الدين وحذره من عاقبة الخروج عن طاعة نور الدين زنكي قائلاً له: ماذا دهاك يا صلاح الدين أتريد الخروج عن طاعة نور الدين وأنت تعلم ما نحن إلا صنائع نور الدين إن الجيش الذي تقوده ما هو إلا جيش نور الدين وإن العز الذي ترفل فيه ما هو إلا منة وشرف قلدهما لك نور الدين والله يا صلاح الدين، لو قدم نور الدين إلى مصر لا يسعني إلا الانصياع لأمره والإخلاص له والله لو أمرني نور الدين أن أضرب عنقك لضربته فعد إلى رشدك، عندها أدرك صلاح الدين خطأه وعاد إلى طاعة أميره نور الدين زنكي.
أيها السادة: لقد نذر نور الدين نفسه للجهاد، ونذر نفسه لتوحيد الأمة، فلا يظنن أحد أن الأمور كانت سهلة، لقد مرت على نور الدين زنكي أجواء حارة وبارده لقد كانت جبهة المسلمين متفرقة فجمعها ولن أبالغ أيها السادة إذا قلت لكم لقد معست بلاد المسلمين من أنطاكية غرباً إلى الموصل شرقاً ومن الأناضول شمالاً إلى جنوب مصر جنوباً لقد معست هذه البلاد معسا، ولن أعدو الحقيقة إذا قلت إنه لم يكن هناك حصن أو صخرة كبيرة أو شجرة وارقة الظلال إلا وحدثت بالقرب منها معركة فانتصر المسلمون فيها أو منوا بهزيمة ساحقة. إن أرض الشام وشمال العراق ومصر خُضبت وجُبلت أرضها بدماء زكية، دماء أسلافكم المجاهدين، ولكن إصرار أسلافكم وتضحيات أسلافكم ودأب أسلافكم، وإخلاص أسلافكم أعاد لأرض الإسلام بهاءها وأعاد للأمة عزها لقد هزم أميرنا نور الدين في إحدى غزواته هزيمة منكرة وكاد الصليبيون أن يظفروا به وبقي وحيدا أو شبه وحيد ولكنه أقسم بالله تعالى ألا يظله سقف حتى يحقق النصر على أعدائه فجمع قواته من جديد، وقادها، فحقق الله له النصر، وبر بقسمه هكذا تكون المواقف، وهؤلاء هم الرجال الرجال وهؤلاء هم الأبطال الأبطال ليس كأمراء وحكام اليوم لم ير المسلمون منهم إلا جببنا وخورا وعهرا وفسوقا وتخاذلا وتذللا للكفار المستعمرين، بل ليتهم كفونا شرهم ولم ينحازوا للكافر المستعمر ليصبحوا عينه التي يبصر بها وقوته التي يبطش بها، يبطشون بالمجاهدين يبطشون بحملة الدعوة يحرفون الكلم عن مواضعه قاتلهم الله أنى يؤفكون.
أيها السادة: بقي لكم أن تعرفوا نهاية السلطنة الزنكية فبعد وفاة نور الدين انقسمت سلطنتهم إلى عدة إمارات، ولكن صلاح الدين الذي تربى في حضن نور الدين أدرك هول الانقسام فامتشق حسامه فمن أطاعه سلما رحب به ومن عصاه أعاده للحق بحسامه وبنجاح صلاح الدين في توحيد البلاد وسحق الصليبيين في حطين بدأ عهد السلطنة الأيوبية. فرحم الله أسلافنا الزنكيين، رحم الله عماد الدين ونور الدين، وجزاهم الله عننا خير الجزاء، فاقرأوا تاريخكم أيها السادة لتعلموا أنه كان لكم تاريخ عريق ومجد تليد وأن أعاده هذا المجد وإعاده هذا العز في متناول اليد إذا استمسكنا بحب ديننا وسرنا كما سار أسلافنا على الحق.
فاللهم اجعلنا ممن يعلي رايتك ويعيد الإسلام ليتحكم في شؤون البلاد والعباد، تحت ظل راية دولة الخلافة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو بكر