إضاءةات على تاريخ الدولة الإسلامية- المرابطين
لعل المسلمين في هذا العصر في أمس الحاجة للمرابطة في سبيل الله لرفع راية الإسلام ورفع الضيم عن المسلمين وغيرهم من الشعوب المظلومة، ولقد كان للرباط شأن عظيم في تاريخ الإسلام، فما هو الرباط؟
الرباط أيها السادة هو ملازمة ثغر العدو، فقد كان حشد الثغور بالمجاهدين سياسة عامة عند المسلمين، ففي الشرق مثلا، كانت الثغور المشحونة بالجنود تتناثر شمال الشام والعراق وعلى سواحل الشام، وذلك لمراقبة الروم، ومنعهم من الاعتداء على الدولة الإسلامية في العهد الأموي والعباسي والمملوكي. أما في بلاد المغرب فقد أطلق اصطلاح الرباط على المكان الذي يلازم ثغر العدو لمراقبة سواحل المسلمين الطويلة والممتدة على البحر المتوسط، والمحيط الأطلسي لصد غارات الفرنجة البحرية عن هذه السواحل؛ ولقد كان للأربطة في بلاد المغرب طعم خاص، فكان المرابطون في هذه الأربطة منقطعين لهذا العمل كما كانوا يتعلمون قراءة وحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية ومعرفة الأحكام الشرعية كما إنهم كانوا يعيشون حياة الزهد والتقشف، ويتولون خدمة أنفسهم في مختلف المجالات، فمثلا كانوا يقومون بتأمين حاجاتهم من الغذاء عن طريق زراعة المحاصيل الضرورية لبقائهم، كما كانوا يقومون بتأمين أدوات القتال ويتدربون على أساليب القتال وركوب الخيل وصناعة السفن وركوب البحر، فكان وقتهم كله للجهاد والجهاد فحسب دون أن يشغلهم بريق الدنيا كما أنهم كانوا لا يكلفون الدولة أية مبالغ تستحق الذكر أو غير ذلك إلا ما هو ضروري للقتال فقد كان الرباط يعج بالنشاط، يعج بالنشاط الفكري والعسكري والمادي الذي لا غنى عنه لتأمين مستلزمات الجهاد.
هذا هو الرباط أيها السادة حبس النفس للجهاد في سبيل الله لابتغاء رضوان الله دون الالتفات لعرض من أعراض الدنيا، إلا ما يكون من ضرورات بقاء الرباط.
هكذا كان الجهاد في بلاد المغرب أيها السادة ومن هذا الرباط نشأت إمارة المرابطين فقد ابتدأ ظهور إمارة المرابطين في رباط في جزيرة من جزر مصب نهر السنغال في غرب إفريقيا على يد عالم جليل ومجاهد كبير هو الشيخ عبد الله بن ياسين الذي كان يتولى الإشراف على كل من ينضم من شباب المسلمين لهذا الرباط ليعدهم الإعداد الفكري والنفسي، ولم تتق نفسه لتولي إمارة المرابطين وإنما اكتفى أن يكون المشرف على شباب الرباط ويتولى إعدادهم الإعداد الفكري فكان مثالا للزهد والاستقامة والإيثار، مما أثر الأثر البالغ في نفوس زملائه المرابطين، وقد كون من هؤلاء الشباب كتلة فكرية وعسكرية من الطراز الأول، وفي هذه البيئة نشأ وتربى يوسف بن تاشفين أعظم أمراء المرابطين وقد تزايدت أعداد المرابطين في هذا الرباط لدرجة أن الجزيرة لم تعد قادرة على استيعابهم، إذ بلغوا أكثر من ألف مرابط يتكتلون على الإسلام دينا والجهاد طريقة لحمل الإسلام، والفكر أيها السادة لا يبقى حبيسا وإذا لامس الإسلام قلوب معتنقيه، ملك عليهم نفوسهم وقلوبهم، فكان لا بد من خروج هؤلاء المرابطين من جزيرتهم يحملون الإسلام، لمن حولهم بالجهاد، يقودهم فكريا الشيخ عبد الله بن ياسين فحملوا الإسلام لمن حولهم من الأفارقة وبخاصة دولة غانا، وأخذت انتصاراتهم تتوالى وتزداد أعدادهم وتزداد تضحياتهم حتى أصبحوا القوة الأولى جنوب غرب المغرب وفي حوض نهر السنغال فدخلت أعداد كبيرة من الأفارقة في الإسلام ثم تمكنوا من بسط سيطرتهم على إقليم الصحراء وطبقوا أحكام الإسلام فنعمت المنطقة بالأمن وأصبحت قوة لها شأنها وهنا قرر المرابطون الانطلاق خارج منطقتهم ولكن هل ينطلقون شمالا حيث الثروة والجاه ويبقون ظهرهم مكشوفا جنوبا أم يؤمنو ظهورهم ويخضعون أعداءهم جنوبا رغم فقر الإقليم وقلة الجاذبية إليه، لم يكن المرابطون أيها السادة يبحثون عن الثروة والجاه وإنما كانوا يريدون راية الإسلام وإبلاغ دعوة الإسلام على أتم وجه فقرروا حسم الموقف نهائيا في الجنوب، وتلقين مملكة غانة درسا ينسيها العبث في الجنوب إذا ما توجه المرابطون شمالاً ولم تم لهم ذلك انطلقوا شمالا ليجدوا الصراع القبلي على أشده في البلاد الواقعة جنوب بلاد المغرب الأقصى، وبلاد المغرب الأقصى بل وفي بلاد المغرب كلها فماذا عساهم فاعلين؟
أخذ المرابطون ينشرون أحكام ويقضون على كل من تسول له نفسه إبعاد الناس عن دينهم فقضوا على الصراع القبلي فعظم شأنهم وأصبحوا قوة عالمية وفي هذه الآونة تسلم يوسف بي تاشفين إمارة المرابطين وكان أهلا لها وقد ضرب بزهده وورعه وحسن سياسيته وحرصه على الجهاد ورفع راية الإسلام أروع الأمثلة لكل من يتطلع لحمل راية الإسلام فلقد جاء ابن تاشفين في عصر خيمت الفرقة على المسلمين في بلاد المغرب والأندلس فوهنت قواهم وأصبحت سواحلهم مستباحة، مستباحة لسفن الفرنجة، والبغض والتحاسد والفرقة تلفهم، والفرنجة يطرقون أبواب حواضر الإسلام في الأندلس، وأفعال ملوك الطوائف في الأندلس تزكم الأنوف، وكان لسان حال المسلمين يقول ألا هل من خلاص؟ ألا هل من نجاة؟ تماماً كما كان حال المسلمين في المشرق وفي نفس الفترة وقبيل ظهور السلاجقة وإذا برب العالمين يهيئ لهذه الأمة من يأخذ بيدها للعز والنصر، فقيض الله لأهل المشرق السلاجقة بقيادة السلطان ألب أرسلان يحمل راية الجهاد ويلملم شعث المسلمين وقيض الله لأهل المغرب والأندلس يوسف بن تاشفين يقود المرابطين بكل همة ونشاط يلم بهم شعث الأمة، شعث المسلمين ويرفع بهم راية الإسلام رغم كثرة المشاحنات والمشاكل التي عصفت بأهل المغرب والأندلس قبيل مجيئه فخرجت ألسن دعاة الشر وخارت قواهم والتفوا حول ابن تاشفين يقودهم من نصر إلى نصر ومن علي إلى أعلى فأصبحت بلاد المغرب وإقليم الصحراء قوة عظيمة وكتل واحدة تنصاع لأحكام الإسلام الذي طبقها يوسف بن تاشفين والذي لم يستطع منافسوه أن يجدوا عليه مثلبة يعتد بها، إنه يطبق الإسلام على نفسه ثم على أقاربه، ثم على سائر الرعايا، عف اليد واللسان ولقد رأوه بأم أعينهم وهو يرضخ لحكم الإسلام وينصاع لعقوبة حكم عليه بها أستاذه ومعلمه الشيخ عبد الله بن ياسين فقد حكم ابن ياسين على أميرنا بالجلد تسع عشرة جلدة، ينبطح الأمير على الأرض ويتولى الأستاذ جلده، انبطح الأمير أمام قادة جيشه وأمراء دولته وأمام رؤساء القبائل وأمام جنده فلم يتعصب له قادة جيشه، ولم يتعصب له أقاربه ولم يقل في نفسه لقد أهين الشعار، الرضوخ لأحكام الإسلام أيها السادة هو العز بعينه هو المجد هو الرفعة انبطاحك على الأرض يا أميرنا لم يزدك إلا عزا ولم يكسبك إلا مجدا، لقد كنت في قمة التواضع وقمة العظمة، ألم تقرأوا أيها السادة هذا القول العظيم: “من تواضع لله رفعه” تواضعت يا أميرنا لله، فرفعك الله، اسمعي واقرأي أيتها الدنيا اسمعوا واقرأوا تاريخنا أيها المتجبرون اسمعوا واقرأوا تاريخنا أيها الحكام الظلمة أيها الرويبضات، إن خادمكم من الدرجة العاشرة يعتبر نفسه فوق الشرع، وفوق القانون، فما بال أولادكم وما بالكم أنتم، اقرأوا يا شباب الإسلام تاريخنا هكذا يكون الإخلاص وهكذا تكون الرجولة ولنعد إلى أميرنا فماذا عساه أن يفعل بهذه الإمارة الفتية وبهؤلاء الشباب الذين يشتعلون حماسة وقد امتدت إمارتهم من مياه البحر المتوسط حتى أقاصي مناطق حوض نهر السنغال وإقليم الصحراء ماذا عساه أن يفعل والفرنجة يعيثون فساداً في سواحل المغرب، يأمر أميرنا ابن الصحراء بإعداد أسطول عظيم يشحنه بالمجاهدين فانطلق هذا الأسطول المبارك واخذ يفتح جزر البحر المتوسط الغربي جزيرة جزيرة ويهاجم أسطول الفرنجة ويحمي سواحل المسلمين على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي حتى دانت للمرابطين السيطرة على حوض البحر المتوسط الغربي وسواحل الأندلس والمغرب الغربية، أما المسلمون في الأندلس فقد أحدقت بهم أخطار عظيمة على يد الفونسو السادس أمير دولة الفرنجة فهل يبقى أهل المغرب يتمتعون بالعز والنصر والأمن والرخاء، وأهل الأندلس يعانون الأمرين من حكامهم ملوك الطوائف الذين أذلوهم وأثقلوا كواهلهم بالضرائب؟ ثم من الفرنجة الذين كانوا يقودهم الفونسو السادس والذي كان يود طرد المسلمين نهائيا من الأندلس يتردد بعض المسلمين من تجار وعلماء وغيرهم بين المغرب والأندلس، ليجدوا بلاد المغرب تنعم بالأمن والرخاء والعز وهناء العيش، وهم في الأندلس بأسوأ حال إنهم كانوا يلمسون عدل يوسف بن تاشفين وانتقل خبر عدل ابن تاشفين إلى الأندلس فتمنى الأندلسيون أن يخضعوا لحكم ابن تاشفين فضغط المسلمون في اشبيلية على أميرهم المعتمد بن عباد وطلبوا من الاستعانة بابن تاشفين أمير المرابطين لتخليصهم من الخطر الاسباني لقد كان بإمكان ابن تاشفين أن يدخل الأندلس دون دعوة، ولكنه أبى حرصا منه على عدم سفك الدماء وحرصا منه عل بقاء جبهة المسلمين الداخلية متراصة ومتحابة، وليقيم الحجة للبقية الباقية من أهل الأندلس ممن كان لا يزال يظن في ملوك الطوائف خيرا لهم.
دخل ابن تاشفين تلبية لدعوة ابن عباد فإذا بالأحوال في الأندلس لا تسر صديقاً ولا تغيظ عدوا فلم يكن يتخيل رضي الله عنه فظاعة ونذالة وخسة أمراء الطوائف ولم يكن يتخيل جبن وخور المسلمين في الأندلس ولهذا أبقى جيشه في حالة استعداد دائمة ومنعه من الاندماج في قوات ملوك الطوائف، وأخذ يعد للمعركة الفاصلة واستعد الفونسو السادس أعظم استعداد للمواجهة القادمة وظن أن قوات المرابطين لا تختلف في تنظيمها عن قوات ملوك الطوائف فأخذ الفونسو يضرب هنا وهناك وابن تاشفين يعد للمعركة فكان لا بد من الاصطدام في الزلاقة، التقى الجيشان، جيش الكفر بقيادة الفونسو السادس وجيش الإسلام بقيادة أميرنا يوسف ابن تاشفين وأراد ابن تاشفين أن يبدأ الصدام بين قوات ملوك الطوائف وقوات الفونسو وما هي الا سويعات وتولي قوات ملوك الطوائف الأدبار فانقض ابن تاشفين بقواته الكبيرة على قوات الفونسو وما هي إلا سويعات ويولي الفونسو الأدبار ثم يأمر أميرنا بمطاردة قوات الفونسو أينما ذهبت فأباد معظمها وخسر الأسبان خسائر فادحة جعلتهم لا يقدمون على غزو المسلمين غزوا حقيقيا قرنين من الزمان. انجلت المعركة وتركت وراءها كثيرا من العبر أولاها أنه لا بد من القضاء على حكم ملوك الطوائف وتوحيد البلاد وضمها إلى بلاد المغرب وطلب العلماء من ابن تاشفين فعل ذلك فخلع العلماء بيعتهم لملوك الطوائف وبايعوا أميرنا بالإمارة، أما الأمر الثاني فيجب نبذ الفرقة والقضاء على العصبية القبلية بين القبائل العربية، ثم بين القبائل العربية والقبائل البربرية من جهة أخرى والأمر الثالث لا بد من الانضمام للخلافة العباسية، لتعود المغرب والأندلس إلى حظيرة دولة الخلافة في بغداد، ونفذ ابن تاشفين هذه الأمور ولهذا لم يجرؤ الأسبان على القيام باستفزاز يستحق الذكر مدة طويلة كما ذكرنا.
إن معركة الزلاقة أيها السادة كانت معركة فاصلة، لا تقل في عظمتها عن معركة ملاذ كرد أو عن معركة حطين أو عن معركة عين جالوت، يكفيها أنها أطالت حكم المسلمين في الأندلس أكثر من مائتي عام، بقي ابن تاشفين في الأندلس فترة كافية ينظم أثناءها أمر الأندلس، ويضرب مرة في الشرق ومرة أخرى في الشمال ومرة ثالثة في الغرب ليبث الرعب في قلوب الفرنجة ولما استتبت الأمور عاد إلى بلاد المغرب فلم يلبث إلا أن توفاه الله سنة 480هـ الموافق 1099م ليخلفه ابنه علي الذي سار على نهج أبيه ثم خلفه أميران لتنتهي إمارة المرابطين على يد الموحدين الذين كانوا أقل دراية وأقل خبرة وأقل عناية بالجهاد كما لم يتمتعوا بالزهد والاستقامة وعلو الهمة التي اتصف بها المرابطون.
لقد حكم المرابطون قرنا من الزمان وتعاقب على حكم إمارة المرابطين ستة أمراء، أميران قبل يوسف وثلاثة أمراء بعده وقد تركوا نفحات رائعة على تاريخ المسلمين في المغرب والأندلس وأقاموا من الحواضر والأربطة ودور العلم ما يخلد ذكراهم ولقد أعادوا البسمة للأندلسيين والمغاربة وأشادوا مجدا تليداً في مختلف الميادين.
فالله نسأل أن يهيئ لهذه الأمة من يلم شعثها، ويوحد كلمتها ويقيم حكم الله فيها، وإن ميدان العمل مفتوح، في كل عصر وحين، ولا يحتاج إلا إلى الإخلاص الخالص وبذل أقصى الجهود وقبل كل ذلك التوكل على الله فأمة الإسلام امة ولود ودود وإن الخلاص لن يكون إلا بالإسلام وبإقامة دولة الإسلام، دولة الخلافة الراشدة، وإن البشرية في أمس الحاجة إلى من ينقذها من تحكم حفنة من الرأسماليين في مقدارتها ومصيرها ومن هو أهل لإنقاذها إلا المسلمون لقد وعدنا الله أيها السادة بهيمنة الإسلام على الدين كله وَوَعْد الله متحقق لا محالة ونصر الله قادم لا محالة فمن أوفى من الله عهدا ومن أصدق من الله قيلا فإلى العمل أدعوكم يا شباب الإسلام فأنتم على الحق وغيركم على الباطل، أنتم تدعون إلى الخير وغيركم يدعو إلى الشر، أنتم تتوقون للقاء الله شهداء عند ربكم ترزقون، وغيركم لا يطمع إلا في دنيا زائلة، أبشروا بالنصر والظفر، أبشروا برضوان الله.
فاللهم اجعلنا ممن يحملوا رايتك نجاهد بها في سبيلك، ننقذ بها الناس جميعا، من الظلمات إلى النور وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو بكر