مواقف وعبر- أصحاب الأخدود
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمدٍ المبعوثِ رحمةً للعالمين
وبعد ..
نرحّبُّ بكم من استوديو البث المباشر من إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير ونلتقي وإياكم وحلقةٍ جديدةٍ نتعرف ونعتبر كذلك من قصة أصحاب الأخدود علّها تنال إعجابكم…
مستمعينا الكرام:
حينما يأبى القلمُ إلا أن يكون وفياً لصاحبه فيخط ما يجول في خاطره ، وحينما تأبى النفوس التي في الصدور إلا أن تكون وفيةً لأناسٍ ما أعظمهم وما أسعدهم وما أربح تجارتهم ، أناسٌ دُفنوا بليلٍ في القبور لا لشيء إلا أن قالوا : ربُنا الله .
ما أعظمها من كلمة !!! تزوَّد بها الدُعاة ففزع منها الطغاة وانقلبوا على عقبيهم لم يضروا الله شيئا ولم يظفروا منهم بنائل فلقد سبق السيفُ العَذل واتسع الخرقُ على الراقع ولله الحمدُ والمنّة.
يقول الله تعالى :” وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10 ” ( البروج (1-10 )صدق الله العظيم
ففي هذه الآيات الكريمة تتجلى حقيقة الصراع الأبدي الذي كان وما زال قائماً حتى اليوم بين الكفر والإيمان وبين الجاهلية والإسلام ، فلم يكن أبداً صراعاً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً كما يحاول الكثير أن يصوروه، بل كان في حقيقتهِ صراعاً عقائدياً مريراً بين أصحاب عقيدةٍ صحيحة وأخرى باطلة .
ولقد قصَّت لنا هذه الآيات العظيمة آياتٍ بينات لتلك الفئة المؤمنة التي آمنت بربها واستعلت بإيمانها واستمسكت بعروة دينها ، حين فُتنت من فراعنة كل عصر وخُيّرت بين الحياة بلا إيمان أو الإيمان الذي سيكون مصير أهله الحرق حتى الموت ، فاختارت فكان نِعمَ الاختيار ؛ اختياراً انتصرَ فيه الحق بأهله على الباطل بجبروته وبطشه .
ولقد وصف سيد قطب – رحمه الله – قصة أصحاب الأخدود بما فيها من أحداثٍ وعِبر بكلمات حقَّ لها أن تُسطر بمدادٍ من ذهب حين قال : ” في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان ، وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية في نفوسِ الفئة الخيّرة الكريمة الثابتة المستعلية .. لم يكن له وزن وحساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان !! أفهكذا ينتهي الأمر وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان ، تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود ، بينما تذهب الفئة الباغية التي ارتكست إلى هذه الحمأة ناجية ؟؟؟ ” هذا في حسابِ أهل الأرض ، أما في حسابِ رب الأرض والسماء جلَّ في عُلاه فيقول : ” إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة وأن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان وأن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة وانتصار العقيدة على الألم وانتصار الإيمان على الفتنة … وهذا هو الانتصار ” .
فكانت قصة أصحاب الأخدود درساً بالغ التأثير للثبات على الحق والاستمساك به ، قال ابن كثير في تفسيره : وقوله تعالى ” قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ” أي لعن أصحاب الأخدود وجمعه أخاديد وهي الحفر في الأرض ، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عزّ وجل فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم ، فأبوا عليهم فحفروا لهم في الأرض أخدوداً وأججوا فيه ناراً وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها ، ولهذا قال الله تعالى : “قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ” أي مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين
ومن أولى بهذه العظات وهذه العِبر من حملة الدعوة إلى الله العاملين لإعادة مجدِ أمتهم وعزتها الضائعة الذين يُفتنون كما فُتن الذين من قبلهم ، في كلِّ أرضٍ وفي كلِّ زمن في حلهم وفي ترحالهم ، الذين ينبغي عليهم ألا يفارق أذهانهم أن هذا الطريق الذي اختاروه لن يكون مفروشاً بالورود والرياحين ، وأن طبيعة الدعوة إلى الله وتكاليفها لن تكون على طبقٍ من فضة ، بل لا بد أن يترسموا معالمها ويدركوا أنهم لا بُد مُلاقين ما لاقاه سلفهم الصالح من أشدّ وأقسى وأنكى أنواع الأذى والتعذيب ، فيتزودوا بزادِ الطريق حتى لا ينتكسوا وتزل أقدامهم .
وقد أخرج الطبراني عن منبت الأزدي قال : رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول : يا أيها الناس : قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ، فمنهم من تفل في وجهه ، ومنهم من حثا عليه التراب ، ومنهم من سبه حتى انتصف النهار ، فأقبلت عليه جارية بعس من ماء – أي قدح كبير – فغسل وجهه ويديه وقال : يا بنية لا تخشي على أبيكِ غيلة ولا ذلة . فقلت من هذه ؟ قالوا : زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم “
فكان لا بُد لحملة الدعوة أن تتربى نفوسهم وتتهذب بهذه التوجيهات القرآنية الكريمة حتى يكونوا مستعدين لبذل الغالي والنفيس في سبيل الله تعالى ، وتكون الدعوة عزيزة على قلوبهم وإن كانت لا تخلو من المتاعب والمصاعب ، ولكنهم يستعذبون العذاب ويجدون الموت حياة من أجلها ولسان حالهم يقول :” فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) “( طه) ، و عيونهم ترنوا إلى هناك ؛ إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ونصرٌ من الله وفتحٌ قريب بإذن الله .
أما الحقيقة الأخرى التي ينبغي على المؤمنين الداعين إلى الله تعالى إدراكها والتي تتمثل في قوله تعالى :” وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ” تتجلى لكلِّ ذي عينين بأن حقيقة الصراع بين أهل الإيمان وأهل الكفر هو صراعٌ عقائدي ومفاصلة حقيقية لا تحتمل التأويل ، فما كان لأصحاب الأخدود ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الحميد ، وبذلك تبطل كل حجج دُعاة التسامح والحوار بأنهم قادرون على مد جسور المودة والمحبة والالتقاء عند منتصف الطريق ، ذلك أنهم لم يدركوا معنى قول الله عز وجل :” وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120)” البقرة
وتختتم الآيات بلفتة قرآنية بليغة في قوله تعالى :” إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ” أي حرقوا ، قاله ابن عباس ومجاهد ، ” ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا” أي لم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أسلفوا ” فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ “وذلك أن الجزاء من جنس العمل .
قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
اللهم إنا نسألك في الدنيا نصراً مُبيناً وفي الآخرةِ جنةً ونعيما اللهم آمين
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين .