بالترويض والتدجين والتضليل احتنكوا الأمة
هناك مشهد لطيف ورائع تشرأب له أعناق الصغار والكبار، وتشد إليه أنظارهم بشيء من السرور والبهجة تصاحبهما صيحات معبّرة عن الدهشة والاستغراب، لتعجبهم مما يرون. ذلك بأن المشهد غير مألوف، وأبطاله ليسوا من البشر، وإنما من الكائنات غير العاقلة، تقوم بأعمال وحركات عجيبة وغريبة ليست في العادة من أعمالها وحركاتها. كالعزف على الآلات الموسيقية مثلا، أو الرقص على أنغام الموسيقى، أو قيادة الدراجات أو أي لعبة أخرى تبهر المشاهد.
وأثناء هذا العرض ومتابعة الأعمال التي تقوم بها تلك الحيوانات المُرَوَضَة تقفز إلى أذهان البعض أسئلة من مثل : كيف لهذا الحيوان غير العاقل أن يعمل هذه الأعمال ويؤدي هذه الأدوار بإتقان..؟ أو كيف له أن يكتسب هذه القدرة على محاكاة أفعال الإنسان..؟ أو كيف له أن يتجاوب مع الإنسان سلبا وإيجابا، ويفهم عنه ما يأمره به..؟ وكيف له أن يدرك كذلك أن جمهور المشاهدين يصفقون له فيقوم بدوره برد التحية عليهم..؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تخامر الذهن أثناء مشاهدة هذه المناظر. وهذا يدل على أن اللوحة الأمامية للمشهد، أي الحيوان وأعماله. هي التي شدت انتباه المتسائل وحجبت عنه من كان وراءها وسببا في تشكيلها. وأخفت عنه المبدع الذي أتقن إخراجها وتقديمها لجمهور المشاهدين. ألا وهو المُرَوِضْ صاحب الخبرة في ترويض الحيوانات الأهلية والوحشية. لأن العروض التي نشاهدها هي في الحقيقة من صنع المروضين وإنجازهم وليست من صنع الحيوانات وإنجازها، وإن كانت هي التي تقوم بأدائها على الوجه المطلوب منها. إذ الحيوان لا يدرك ماذا تعني هذه الأعمال، ولا يفهم مضمونها، ولا يعي ما المقصود منها، أو ما قيمتها في نظر المشاهد. ولا يعلم كذلك أنه مورد رزق لمن يملك رقبته ويستخدمه في مثل هذه العروض الشيقة. فهو (أي الحيوان) يؤدي هذه العروض استجابة لمروضه، أي للإنسان المميّز عنه بالعقل. الذي استطاع به – أي بهذا العقل – أن يكسب المهارة والقدرة على التحكم في هذه الكائنات غير العاقلة. إما بالترويض وإما بالتدجين. ويجعلها خاضعة لسلطانه وتسير وفق إرادته. فصاحب هذه الصنعة، يدرك أن هذه الكائنات لا تعقل ولا تفكر مثله، وأنها تسير في هذا الوجود بحسب غرائزها. فاستغل فيها هذا النقص، أي غياب العقل، وقام بترويضها وتدريبها كيفما شاء.
وعليه فإن عمل المروض حين ترويضه للحيوانات يختلف عن عمل المدرس في حصة تدريسه للتلاميذ. إذ المدرس في عمله يعول على الطاقة العاقلة في تلاميذه. فيقوم بتفعيل هذه الطاقة فيهم وتنشيطها. وذلك عن طريق التلقين والتعليم والاختبار. إلى أن يُنمِّي فيهم القدرة على التفكير وربط المعلومات ببعضها. وأما المروض فإنه لا يعول على هذه الطاقة في عمله لأنها معدومة في الحيوان. وإنما يعول على ما فيه من غرائز وحاجات عضوية. فيقوم باستغلالها لحظة ترويضه لها إلى أن يصير الحيوان خاضعا له ومنفذا لأوامره ومتقيدا بإشاراته. وذلك من أجل إشباع حاجة عضوية أو غريزية فقط ليس أكثر. أي مطواعا للمروض ومنقادا له من أجل الحصول على الطعام. كالفواكه والمكسّرات واللحوم.
فعملية الترويض إذا مرتبطة في الأصل بالناحية الغريزية والعضوية في الحيوان وليست مرتبطة بالعقل. وخلاصة القول، إن هذه المشاهد اللطيفة والمبدعة التي نستمتع بمشاهدتها هي من صنع الإنسان العاقل الذي استطاع أن يجعل لنفسه سلطانا على هذا الحيوان غير العاقل. وأما الحيوان وإن كان هو الذي يؤدي هذه الأدوار ويقوم بهذه الأعمال الرائعة، فإنه يبقى دائما وأبدا من البهائم والأنعام البكماء الصماء التي لا تعي ما يصنع بها هذا الإنسان.
هذا فيما يخص ترويض الحيوانات بصنفيها الوحشي والأهلي. وأما فيما يتعلق بعملية تدجين الحيوانات. أي جعلها تتأقلم مع البيئة البشرية وتألف العيش إلى جانب الإنسان. فإنها لا تختلف كثيرا في مضمونها عن عملية الترويض. إلا أنها أقل جهدا وعناءً منها. لكونها لا تتطلب خبرة عالية، ولا فنا خاصا. فمن السهل علينا جميعا تدجين الحيوانات التي تسمى بالأهلية. كالدجاج والحمام والماعز والبقر وغيرها. هذا هو حال الحيوان الذي سخّره الله للإنسان. ليدجّنه أو يروضه كيفما شاء. ولكي يستعمله في أشغاله وأعماله. كالأسفار وحمل الأثقال والحرث والحصاد والسقي والصيد والحروب. ولكي يتغذى بألبانه ولحومه. ولكي يتخذ من ريشه وأصوافه وأوباره وجلوده أثاثا ولباسا يقيه الحرّ والبرد. قال تعالى : {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}[المؤنون: 21/22]. وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ }[النحل: 80]. أمّا الإنسان فإن حاله يختلف عن حال الحيوان. ذلك بأنّ الله كرّمه وشرّفه وفضّله على سائر مخلوقاته. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: 70]. يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: ” َيُخْبِر تَعَالَى عَنْ تَشْرِيفه لِبَنِي آدَم وَتَكْرِيمه إِيَّاهُمْ فِي خَلْقه لَهُمْ عَلَى أَحْسَن الْهَيْئَات وَأَكْمَلهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ” لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان فِي أَحْسَن تَقْوِيم ” أَنْ يَمْشِي قَائِمًا مُنْتَصِبًا عَلَى رِجْلَيْهِ وَيَأْكُل بِيَدَيْهِ وَغَيْره مِنْ الْحَيَوَانَات يَمْشِي عَلَى أَرْبَع وَيَأْكُل بِفَمِهِ وَجَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَفُؤَادًا يَفْقَه بِذَلِكَ كُلّه وَيَنْتَفِع بِهِ وَيُفَرِّق بَيْن الْأَشْيَاء وَيَعْرِف مَنَافِعهَا وَخَوَاصّهَا وَمَضَارّهَا فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة وَالدُّنْيَوِيَّة “. ويقول الطبري: ” يَقُول تَعَالَى ذِكْره : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم } بِتَسْلِيطِنَا إِيَّاهُمْ عَلَى غَيْرهمْ مِنْ الْخَلْق، وَتَسْخِيرنَا سَائِر الْخَلْق لَهُمْ { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ } عَلَى ظُهُور الدَّوَابّ وَالْمَرَاكِب”. هذا هو الفارق بين الحيوان والإنسان. وهذا ما هو مشاهد ومحسوس في الواقع. وهنا نقف لنتساءل فنقول: هل هذا الإنسان الذي كرّمه الله بالعقل وشرّفه على سائر مخلوقاته من الممكن هو الآخر ترويضه وتدجينه. أي نحن الكائنات العاقلة هل من الممكن إخضاعنا لعمليات الترويض والتدجين. ويفعل بنا ما يفعل بالكائنات غير العاقلة؟ فإن كان هذا ممكنا، ورأينا نواصي بعض البشر بأيدي البعض الآخر يجرونهم بها جرّا حيث ما أرادوا، فهل هذا الأمر تم بسلطان أم بغير سلطان؟ وللجواب على هذا ينبغي علينا أن نتحول من هذا المشهد إلى مشهد ثان من مشاهد القرآن الكريم، لنرى ما جاء فيه عن هذا الأمر.