بالترويض والتدجين والتضليل احتنكوا الأمة ج2
يقول الله عز وجل في سورة الإسراء: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا* قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا)[الإسراء: 61/65]. إن هذه الآيات تصور لنا مشهدا خطيرا من مشاهد العصيان والتمرد بدافع الحقد والحسد. فإبليس اللعين عصى ربّه وأبى أن يطيع أمره ويسجد لمن خلق. وأبطن لهذا المخلوق الجديد العداوة والبغضاء والكراهية. وحينما غضب الله عليه ونزلت به اللعنة إلى يوم الدين قال بدافع الغرور والكبرياء : أرأيت هذا الذي شرّفته وكرّمته علي لئن أبقيتني حيّا إلى يوم الدين لأحتنكنّ ذريته. والإحتناك له معنيان. قال الرازي : الإحتناك فيه قولان، أحدهما : أنه عبارة عن الأخذ بالكلية، يقال : احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية. والثاني : أنه من قول العرب : حنك الدابة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. فعلى القول الأول معنى الآية : لأستأصلنّهم بالإغواء. وعلى القول الثاني : لأقودنّهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها. وقال صاحب التحرير والتنوير: والإحتناك : وضع الراكب اللجام في حنك الفرس ليركبه ويسيّره “. وقال مجاهد : أي لأحتوينّهم. وقال ابن زيد: لأضلنّهم. والمعنى متقارب، كما قال القرطبي، أي لأستأصلنّ ذريته بالإغواء والإضلال. وقيل : معناه لأسوقنّهم حيث شئت وأقودنّهم حيث أردت. فهذه المعاني تبين أن مراد إبليس هو الإغواء والتضليل وترويض الإنسان لينقاد لأوامره، ويطيعه فيما يأمره به من المعاصي والمنكرات. ولذا قال سبحانه ردا عليه : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) أي : أمض لغرضك وشأنك أنت وجندك، واستفزّ منهم من قدرت عليه، واغو منهم من استطعت. وادعهم إلى معصية الله وانظر لمن يستجيب لدعواتك المضلّة. وقوله : ( وعدهم ) أي مَنِّهِمْ الأمانيّ الكاذبة، وأوح إليهم أن لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان ثمة حساب وجنة ونار، فأنتم أولى بالجنة من غيركم. ويقوي هذا الرأيّ قوله تعالى : ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)[النساء: 120]. أي باطلا. وهذا فيه تهكم واستخفاف بالشيطان وبمن تبعه من الغاوين. لأن الله عز وجل يقول بعد ذلك: ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا ). ويقول في آية أخرى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )[الحجر: 42]. والسلطان هنا معناه الحجة والنفوذ. قال صاحب تفسير ” زاد المسير” : ” وفي المراد بالسلطان قولان: أحدهما : أنه الحجة، قاله ابن جرير، فيكون المعنى : ليس لك حجة في إغوائهم. والثاني: أنه القهر والغلبة، إنما له أن يَغُرَّ ويزين، قاله أبو سليمان الدمشقي”.
فالسلطان إذا نوعان. نوع له علاقة بالعقل، ونوع ثان له علاقة بالنفس. فالذي له علاقة بالعقل. هو الحجة والبرهان والدليل القطعي الذي لا يمكن دحضه بدليل يتوهمه العقل. وأمّا الذي يتعلق بالنفس والشعور، فهو القهر المطلق والغلبة التي لا تقاوم. وهذا لا يكون إلا بالتحكم في الآجال والأرزاق. وعليه فإن كلا النوعين. سواء الحجة والبرهان، أو القهر والغلبة، كلاهما بيد الله سبحانه وتعالى. فهو الذي يملك الحجة التي لا تدحض، والبرهان الذي لا يرد. وهو الذي بيده آجال العباد وأرزاقهم. وهذا ما دلت عليه الآيات التي تضمنت لفظة “السلطان”. فقوله تعالى : ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)[آل عمران: 151]. يعني ليس لهم دليل أو برهان على استحقاقها للعبادة مع الله. وقوله : (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)[الأعراف: 71]. يعني : أتجادلونني في هذه الأصنام التي سميتموها آلهة أنتم وآباؤكم؟ ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان. فهي مصنوعة من الحجارة والخشب لا تنفع ولا تضر. وقوله: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )[يونس: 68]. أي كيف يكون له ولد ممن خلق وكل شيء مملوك له؟ وليس لديكم دليل على ما تفترونه من الكذب. أتقولون على الله ما لا تعلمون حقيقته وصحته؟. وقوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ)[الصافات: 27/30]. أي ما كان لنا عليكم من حجة مقنعة ولا قوة قاهرة، فنصدّكم بها عن الإيمان. وقوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)[سبأ: 20/21]. أي ما كان لإبليس على هؤلاء الكفار من قهر على الكفر. ولم ينكر إبليس هذا واعترف بعجزه وافتقاره للسلطان الذي يتحكم به في العباد في قوله تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[إبراهيم: 22]. قال صاحب التفسير الميسر في شرحه لهذه الآية : إن الله وعدكم وعدا حقا بالبعث والجزاء، ووعدتكم وعدا باطلا أنه لا بعث ولا جزاء، فأخلفتكم وعدي، وما كان لي عليكم من قوة أقهركم بها على إتباعي، ولا كانت معي حجة، ولكن دعوتكم إلى الكفر والضلال فاتبعتموني.
وبهذا ندرك أنه ليس لأي مخلوق سلطان مطلق على مخلوق مثله كما هو واضح في قوله تعالى : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) وعبادي هنا تشمل كل العباد. قال صاحب تفسير ” البحر المحيط ” : ” نقلا عن ” الجبائي: { عبادي} عام في المكلفين، ولذلك استثنى منه في أية من اتبعه في قوله { إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } واستدل بهذا على أنه لا سبيل له ولا قدرة على تخليط العقل وإنما قدرته على الوسوسة، ولو كان له قدرة على ذلك لخبط العلماء ليكون ضرره أتم “.
وحينما نقرأ قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)[النحل: 99/100]. لا نتوهم أن هذه الآية تتضمن النفيّ والإثبات في آن واحد. حيث أنه في بداية الآية نفى أن يكون للشيطان سلطان على العباد، وفي أخرها أثبت أن له سلطانا عليهم. لا نتوهم ذلك. لأنه قد سبق وأثبت أن لا سلطان له على الإطلاق. ولكن أراد أن يبين هنا أنه ثمة قسم من العباد ليس له سلطان عليهم. لكونهم آمنوا بالله وتوكلوا على ربهم. فأدركوا بمقتضى هذا الإيمان أن لا سلطان عليهم في هذه الحياة إلا سلطان الله الخالق المدبر، الذي بيده أرزاق العباد وآجالهم. لقوله تعالى: (أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ ونفور)[الملك: 21]. وقوله : ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة: 68/70]. وقوله : ( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )[الواقعة: 83/87]. وقسم آخر سَهُلَ عليه احتواءهم من غير حاجة للسلطان الفعلي. لكونهم تولونه واستجابوا له بمجرد أن دعاهم. فكان هذا الاحتواء بمثابة السلطان. ولذا قال : ( إِنَّمَا سُلۡطَـٰنُهُ ۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوۡنَهُ ۥ) كناية عن الهيمنة وبسط الجناح. وهذا فيه تهكم وتحقير لهم. فيكون المعنى إذا. أنه ثمة صنف من البشر لا يمكن احتواءه لا بالترويض ولا بالتدجين ولا بالتضليل. وصنف آخر يمكن احتناكه وقوده وتسييره نحو ما يريده الضّال المضل الماسك بالحبل.