كيف نبني وكيف نهدم – لا تكن تقليديا
. كان يا ما كان في سالفِ الدهرِ والزمانِ رجلٌ يعيشُ بحذرٍ شديدٍ أو كما يُقال ” جنب الحيط “، وشعارُه في الحياةِ : (من خافَ سلِمَ ومن ربى أولادَه غنِمَ ) ، فكلِّ يومٍ جديدٍ يمر على صاحبِنا هو نسخةٌ لليومِ الذي قبله، واليوم الذي يليه أيضاً نسخةٌ من الذي قبله وهكذا، فاليوم يبدأُ بالذهابِ إلى عملِه ، ويذهبُ أولادُه إلى المدرسةِ ، بينما تخرجُ زوجتَه إلى عملِها ، ثم تلتقي العائلةُ على مائدةِ الغذاءِ ، ثم العشاءِ ، ثم الجلوسُ إلى التلفازِ أو بعضِ الزياراتِ ، فكل البيت يعيشُ في روتين يومي لا يتغيرُ أبداً. ولماذا يتغير ما دام الأبُّ والأمُّ والأولادُ سعداءُ وهم في غنى عن أي تغييرٍ. فالتغييرُ يعني المشاكل، ويعني التفريطُ في هذه الراحةُ والسعادةُ. إن بطلَ قصتِنا ومَنْ حولَه مرتاحين في بيتِهم والكل مرتاحٌ في حياتِه الخاصةِ. ولا ننسى أنهم جميعاً يقومون بما طلبه منهم اللهُ تعالى أو كما يظنون، فالأبُ يذهبُ إلى المسجدِ للصلواتِ الخمس، والأمُّ ترتدي الخمارَ والجلبابَ، بينما الأطفالُ يأكلونَ ويشربونَ مطمئنين، فأكثرُ ما يهددُ راحةَ هذه العائلةُ هو فقدانُ الوظيفةِ أو عزوفُ الناسِ عنهم، ولذلك فهناك مظاهرٌ يجبُ الحفاظُ عليها مهما كلف الأمر. فالأبُّ دائماً في حالِهِ، لا يتدخلُ فيما لا يُعنيه، فلا داعي للمجازفاتِ . ومع أن مَن حولَه يأخذون الرشاوَى ، فهو لا يُبالي، ومع انه يرى مِنْ حولِه الكثيرَ من المسلماتِ السافرات، لا يتحرك غيرة على أخواته . ومع انه أيضا يلاحظُ ظلمَ الحكومةِ في بلادِه، ويشعرُ بسوء رعايةِ شؤونِ الناسِ مِن حولِه، هو لا يُشغلُ نفسَه كثيراً بعناءِ التفكيرِ في المعالجات، لماذا ؟ لأن ذلك مخاطرةٌ تتطلبُ مواجهات، وتهدد راحته ، فأقصى ما يهمه في حياتِه سلامته وسلامة أولاده . والظروفُ من حولِه صعبة، من غلاءِ المعيشةِ، وضَنَك العيشِ وتعبٍ ومللٍ، وتهديدات أمنية على بلده المسلم ، في خضم كل ذلك ، بطلنا يعملُ جاهداً لتفادي أن يكونَ فريسةً لهذا الواقعُ الفاسدُ الذي تعيشُه أمته اليوم ، فماذا يعمل بطلنا ؟ هو يغلقُ على نفسِه باب داره وينعزل في محيط أسرته وبعض علاقاته ، وهو يظن بذلك أنه يُحسن صنعاً، فالواقعُ فاسدٌ بكل معنى الكلمة . النظامُ الإقتصادي في بلدِه قائمٌ على الربا، و النظامُ الإجتماعي يسير الناسُ بعاداتٍ وتقاليدَ ترمي بالأحكامِ الشرعيةِ وراءَ ظهورِها، ومناهجُ التعليمِ خرِبةٌ وهو يرى ذلك في أولاده ، فهم غير مهتمين إلا بالتوافه من المسائل، وفكرُهم خاوٍ، فلماذا لا تؤثر تلك المناهجُ التعليمية والمدارسُ الخاصة التي يدفع فيها بطلنا دم قلبه، لماذا لا تؤثر في شخصياتهم؟
ومع أن هناك الكثيرُ من الأسئلةِ تدور في رأسه حول أسلوبِ حياتِه، وهل ما يفعله كمسلمٍ يكفي أم لا، مع ذلك لا يتوقف بطلنا كثيراً عند هذه الاسئلةُ، فهو لا يريدُ أن يوجِعَ رأسَه بالتفكيرِ، ويفضّلُ متابعة مسلسل على التلفاز ليريح ذهنه من تعبِ النهارِ، وكذلك فهو لا يُتابعُ الأخبارَ، وذلك لأن متابعةَ الأخبار تحبطه ، فهي كلها أخبار سيئة ومكررة عن بلاوي في بلادِ المسلمينَ، وهذا لا يقوى عليه، ولا يتحمله، فيقومُ بالدعاءِ للمسلمينَ في الصلاةِ. فليس بيده شيءٌ يفعله، وكأن بطلنا نسى أنه البطل !! وكأنه نسى أنه من المسلمينَ، وان كل ما يقعُ عليهم يعنيه وكأنما وقع عليه ، لذلك ربما يتبرّع ، هذا البطل البائس ، بمبلغ من المال كل شهر لمساعدتهم. وهو يعلمُ جيداً أن له دور يربطه بالأمةِ الإسلاميةِ ، لكنه لا يفكر في ماهية هذا الدورُ. فهو رجلٌ تقليديٌّ ، يسير في حياتَه بصورةٍ تقليديةٍ ” مسالمة “، ممنهجة ومخططةٍ، وهو ينفذها بحذافيرها، فكذلك يفعلُ كل الناسُ، وهو واحدٌ من هؤلاءِ الناس.
ولنخرج الان من القصةِ قليلاً وننظر إلى حياة بطلنا هذا من الخارج، فنجده مكبّلٌ فكرياً ، فأفكارِه لا تتعدّ هذه الحياةُ الدنيا، فهو لا يشغل نفسه في تفكيرٍ أعمق من ذلك، بالنسبة له الحياةُ قصيرةٌ ولا تحتمل التعقيد، وبطل قصتنا لا يحُل مشاكلَه بل يتظاهرُ بعدمِ رؤيتِها طبعا ، أملاً أن تختفي من تلقاءِ نفسِها ، وفعلياً هو قد تخلى عن حقوقِه التي اعطاها له اللهُ تعالى، فالله تعالى قد أنزل الأحكام الشرعية كاملة متكاملة لتعالج كل مشاكل الإنسان ، ولكنه لا يرجع للعقيدة الإسلامية كمصدر لحل مشاكله ، ولماذا لا يرجع لها ؟ لأن ذلك صعب والله تعالى أمرنا بالتيسير! ومثلا ، هو يعلمُ أن نظامَ الحكمِ في بلادِه نظامٌ ظالمٌ جائرٌ، يُنهَبُ ثرواتُ المسلمين، ولكنه يصمت عن ذلك ويغض طرفَه حتى (يمشي حاله)، وحقيقة هو يعيشُ في سجنٍ صنعه لنفسه، فسكت عما حوله من منكراتٍ، وتنازل عن حقه في إختيار من يحكُمَه، فأغتُصِب سلطانُ الأمةِ وهو يتفرجُ، والإسلامُ في حياتِه فقط عبادات، فهو أيضا قد سجن نفسَه وحرمها من حلاوة الإيمان الحقيقية، فالإسلام مبدأ وأسلوبُ حياةٍ متكامل، ولكن الرجل ، من شدة تبلده ، لا يتساءل أين هذا القرآنُ الذي يتلوه ليلَ نهار من التطبيق ؟
فعيشته المرتاحة حقيقة تجعل منه إمعة ولا قرار له، وتجعل منه ضعيفاً، فهو يعيش محاطاً بفسادٍ دخل بيتَه في عدة صور، وهو يتعامل معه بالتغاضي عنه ومحاولة التعايش معه، ولا يواجه نفسه بضرورة التغيير، فيفضل أن يتفرج على المبارياتِ، ولا يكون أبداً من اللاعبين في ميدان الحياة ، ظاناً بذلك أنه سلِم. والحقيقةُ أن حياتَه تضيع من بين يديه وكذلك آخرته، فلا يسأل نفسَه أين هو من الله تعالى الذي خلقه ؟ ولماذا خلقه ؟ فهل للعبادة أم للّهوِ في هذه الدنيا . هل هو عبد الخالق جل وعلا كما يستحق ؟ وكيف يستعد للحساب من بعد الموت ؟
فيجب أحبتي في الله، أن نبني في المسلم ضرورة محاسبةِ النفس وبذلِ الجهد في التفكرِ والتدبر في حقيقةِ هذه الحياةُ والإنسانُ والكونُ، كما يجب أن نبني في المسلمِ ضرورةَ كونه عضواً فاعلاً في الحياة، فلا يكون إمعةً ولا يكون مهمشاً، وعليه بالمبادرةِ بأخذِ زمامِ الأمورِ، وتوجيه حياته وحياة الآخرين ولا سيما ما يتعلق بأنظمة مجتمعه، وخصوصاً توجيه النظام الحاكم الى الطريقِ المستقيمِ الذي إرتضاه الله تعالى للناسِ أجمعين. فهذا حقه في الحياةِ والذي سيحاسبه الله تعالى عليه. كما يجب أن نهدمَ عقليةَ الحياةِ التقليديةِ، والروتين الذي يُبعِدُ المسلمُ عن الله تعالى، ونكسرَ قيودَ الخوفِ والتواكلِ التي تجعله متردداً، فنربَأ بأنفسنا ان نكون تقليديين بل يجب ان نكون غرباءَ في هذا الواقع الفاسد، ونعمل على تغييره ، فهذا هو دورُ المسلم في العالم، الأخذ بيد البشرية من الظلمات إلى النور، ففي الحديث ، قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، “بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء” أي ان المسلم الحقيقي يكون غريباً في مجتمعٍ غلُب عليه البُعد عن الله تعالى. أيها الحضور الكرام، يجب علينا الثورة على الواقعِ الفاسد وليس مجاراته، وكسر القيود والحواجز وتخطي العوائق من كل نوع وليس الاستسلام ، للنجاح في التغيير ولو على حساب راحتنا، بذلك فقط نبني شخصيات قيادية ومبدعة يكونوا أبطالاً حقيقيين ولا يقنعون بدور خيال مآتة في قصة خيالية يعيشونها منعزلين عن ما يجري حولهم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.