بالترويض والتدجين والتضليل احتنكوا الأمة
لقد كانت هذه الأمة في عزة ومنعة لما كان سلطانها بيدها، أي الحكم بكتاب الله وسنة رسوله. وكان الكفار يستهدفونها بالحرب والقتال للقضاء عليها. ولكن بعد جهد وعناء تبينوا أن القوة الكامنة في هذه الأمة مصدرها العقيدة الإسلامية، فغيروا أساليبهم تجاهها يوم أحسوا بالضعف الفكري والسياسي قد دب فيها. فهجموا عليها بأفكارهم التي استحدثوها بعد انفلاتهم من هيمنة الكنيسة وتحررهم من رجال الدين. وبدءوا عندئذ بترويض أبناء المسلمين على تقبل أفكارهم والتخلي عن موروثهم العقائدي والفكري. ونستشهد على ذلك بما قاله أحدهم في هذا المضمار. وهو المفكر الوجودي والفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” صاحب مجلة ” الأزمنة الأخيرة ” التي كان يفضح فيها قذارة الحرب الاستعمارية التي كانت بلاده تشنها على الشعب المسلم في الجزائر. يقول هذا الشاهد على طريقة الغرب في صناعة المفكرين والمثقفين والزعماء والقادة، وكيفية إعدادهم لتولي شؤون هذه الأمة، ما نصه : [ كنا نحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء من إفريقيا وآسيا ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن والنرويج وبلجيكا وباريس، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو، ويتعلمون لغاتنا، وأساليب رقصاتنا وركوب سياراتنا ـ إلى أن يقول ـ : وكنا ندبّر لبعضهم زيجات أوروبية ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية، كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا ثم نرسلهم إلى بلادهم، وأي بلاد! بلاد كانت أبوابها مغلقة في وجوهنا، ولن نجد منفذا إليها، كنا بالنسبة إليهم رجساً ونجساً، لكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم كنا نصيح في أمستردام، أو برلين، أو باريس: (الإخاء البشري)، فيرتد رجع أصواتنا من أقاصي إفريقيا، أو الشرق الأوسط، أو شمالي إفريقيا، كنا نقول: ليحلّ المذهب الإنساني – أو دين الإنسانية – محل الأديان المختلفة، وكانوا يرددون أصواتنا هذه من أفواههم، وحين نصمت يصمتون، إلا أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم ]. ومن يتمعن في هذه الكلمات المعبرة والمختصرة يدرك أن هذا الرجل يحدثنا عن عملية تصيد بعض أبناء المسلمين لترويضهم وتربيتهم على أفكارهم ليكونوا من بعد خدما لهم في بلادنا. وبمعنى آخر يخبرنا عن صناعتهم للعملاء والخونة الموالين له لخدمة مصالحه في بلاد المسلمين التي كانت أبوابها مقفلة في وجوههم. وهذا فيه جواب كاف على سؤالنا السابق حول إمكانية ترويض البشر.
فالغرب الحاقد على هذه الأمة استطاع اقتناص بعض المنهزمين فكريا ونفسيا وقام بترويضهم وإغوائهم من غير أن يكون له سلطان عليهم. لكونه فاقدا للعنصرين المذكورين سالفا. أي فاقدا للحجة التي يستطيع بها مقارعة حجج الإسلام ودحض أفكاره والتفوق عليه فكريا. وفاقدا كذلك للقوة القاهرة التي ينفذ بها إلى قلوب المؤمنين ليستأصل منها عقيدة الإسلام ويضع مكانها عقيدته الفاسدة. وعليه فإن الغرب الكافر استطاع استدراج الضعفاء من أبناء هذه الأمة وروضّهم على عقائده وأفكاره فزادهم بذلك تخلفا على تخلفهم. أي ضاعف فيهم التخلف الذي وجدهم عليه، وهو التخلف الفكري العام الذي شمل الأمة من قبل سقوط الخلافة. وسببه ضعف القدرات العقلية في فهم الإسلام وتطبيقاته على وقائع الحياة وحوادثها المستجدّة. وليس ضعف الإسلام وعدم قدرته على معالجة مشاكل العصر كما يزعمون. فأضاف إلى ذاك التخلف تخلفا آخر. وذلك بإغرائهم وإغوائهم بأفكاره التي يسمونها أفكارا تقدمية. وهي في الحقيقة أفكار ومعالجات متخلفة ورجعية لأنها من وضع البشر. بخلاف أفكار الإسلام ومعالجاته فهي من وضع خالق البشر. وعليه فإن الثقافة الغربية التي اغترّ بها بعض المسلمين هي ثقافة متخلفة عن الثقافة الإسلامية. وبمعنى آخر إن حضارة الغرب متخلفة عن حضارة الإسلام. وذلك في الزمن الذي نشأت فيه وفي الفكر الّّذي تقوم عليه.
لأن الزمن الذي ظهرت فيه هذه الأفكار الجديدة التي أنشأها الغرب ليقاوم بها السلطة القديمة، أي سلطة رجال الدين. كان زمنا متأخرا جدا لزمن ظهور الإسلام. أي لمّا كان الغرب المسيحي يتخبط في ظلمات القرون الوسطى وتتحكم فيه القوى الظلامية. كان الإسلام حينها في أوج نشاطه وحركته العالمية. حيث كان يجوب العالم شرقا وغربا، ويتوسع في الفتوحات لتحرير البشرية من الرق والاستعباد وظلم الأباطرة والملوك. إلا أن الغرب المسيحي كان يحاربه ويصده عن دياره وبقي منغلقا عن نفسه راضيا بعيشه التعيس. وحتى التغيرات الجوهرية التي أحدثها الإسلام في الشعوب التي حكمها. من رقي فكري، وازدهار حضاري، وتطور علمي، وتقدم مدني. لم تبعث فيه التوقد الفكري لينظر في حاله ويفكر في أوضاعه. بل احتاج إلى عدة قرون ليحس في النهاية بالظلم والتخلف، وبضرورة التغيير والتخلص من تلك القوى الظلامية التي تحكمه. وبدأ عندها بوضع هذه الأفكار والمعالجات الجديدة التي قاوم بها سلطة الكنيسة والملوك. ومن ثمة بدأ تاريخ النهضة الأوروبية. أي بعد عشرة قرون أو يزيد من ظهور النهضة الإسلامية في العالم. وهذا في الحقيقة تخلف زمني كبير.
وأما الأفكار والمعالجات التي وضعها الغرب فهي كذلك أفكار ومعالجات متخلفة بالمقارنة مع أفكار الإسلام ومعالجاته. لأنها أفكار ومعالجات من وضع الإنسان المحدود عقلا وطاقة. ولأنها لا تقوم لها حجة ولا برهان على صوابها وصحتها. ولكونها كذلك تناقض الواقع وتتصادم مع حقائق الحياة. ولكونها لا توافق فطرة الإنسان. وبالإضافة إلى ذلك كله فإنها أفكار ومعالجات لم تفِ بحاجة الإنسان ولم تعطه الإجابة الشافية على كل تساؤلاته في هذا الوجود. فهي لم تعالج فيه جميع مشاكله وتركته يتخبط بمفرده وجهده الخاص في البحث عنها. كمشكلة الدين والتدين وحل العقدة الكبرى. فهي تجاهلت في الإنسان غريزة التدين الفطرية فيه ولم تعطه الإجابة عنها ولم تهده إلى الطريق الصحيح. لهذا كله كانت أفكار الغرب الرأسمالي ومعالجاته متخلفة عن أفكار ومعالجات الإسلام، الذي لم يترك ولا جزئية واحدة من جزئيات الحياة، سواء كانت تتعلق بالعقائد أم بالأخلاق، أم بالمأكولات والمشروبات والملبوسات، أم بالعلاقات، إلا وعالجها علاجا تاما.
وبناء على ما تقدم تكون الأفكار التي يروج لها في بلادنا. ويسمونها أفكارا تقدمية، كالليبرالية، والديمقراطية، والاشتراكية، والقومية، والوطنية، وفكرة فصل الدين عن الحياة والحريات، هي في حقيقتها أفكار رجعية وليست تقدمية كما يزعمون. لكونها رجعت بالحياة والإنسان إلى الخلف بعدما تقدم بهما الإسلام. ويكون الذي أخذها عنهم قد ازداد تخلفا لأنه استبدل الفكر الغربي الفاسد بالفكر الإسلامي الراقي. أي استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. ومن دلالات عمق التخلف أنهم لازالوا متمسكين إلى اليوم بالأفكار التي تراجع عنها الغرب وألقى بها في الزبالة وأنهى العمل بها، كفكرة الشيوعية. إذ لازلنا نرى في بلادنا أحزابا شيوعية.
فمصيبتنا اليوم تتمثل في هؤلاء الذين روضهم الغرب في حظيرته وزرع فيهم أفكاره وأنظمته ورباهم على طريقة عيشه في الحياة. ثم تحولوا بعد ذلك إلى ديارنا ودخلوا علينا بتلكم الأفكار، وتموقعوا المواقع الحساسة في الدولة والمجتمع. واستلموا المناصب المتقدمة في الحكم والإدارة. ووضعوا أيديهم على المؤسسات الحيوية. وتولوا إدارة الاقتصاد والتعليم والصحافة والإعلام. وشكلوا أحزابا وجمعيات علمانية. وألبسوا الحق بالباطل. وفتنوا الناس عن دينهم. ويا ليت هذا الأمر بقي محصورا فيهم ولم يسر في غيرهم. ولكن مع الآسف قد فشت عدواهم بين فيئات أخرى من المجتمع. فتلوث بها بعض المثقفين وبعض الكتاب والمؤلفين وطلبة الجامعات، وحتى بعض الأحزاب والحركات الإسلامية باتت تردد هي الأخرى هذا النشاز وتدعوا لهذه الأفكار الفاسدة، كالديمقراطية والاشتراكية. ولهذا لا يمكن أن نتصور أن هذه الأمة بمقدورها أن تسترجع مجدها وعزها بهؤلاء القادة والزعماء والمفكرين والمثقفين الموالين للغرب الكافر أو المضبوعين بأفكاره وحضارته. وإنما تتحرر الأمة بأبنائها المخلصين لها.
أما حال العامة في هذه الأجواء فهو كحال الغلمان في مسرح الدمى الخشبية، يتابعون فصول المسرحية دون أن يتفطنوا للأصابع الخفية التي تحرك الدمى. فهؤلاء تبلد فيهم الإحساس وتبلدت فيهم الطبائع، حتى ألفوا العيش إلى جانب الحكام العملاء. وألفوا الخيانات المفضوحة، والمؤامرات المكشوفة، والتواطؤ مع دول الكفر. وألفوا القرارات المجحفة والتنازلات المخزية. وألفوا رداءة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وألفوا الفقر والعيش تحت القهر والظلم، وألفوا القتل والتدمير والتعذيب في إخوانهم وأبناءهم. وألفوا العيش بين المنكرات. ألفوا كل شيء حتى عادت الفواجع والكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تستفزهم. وهاهم لازالوا يصفقون ويهتفون بحياة الرئيس والملك. أبعد هذا التدجين من تدجين ؟
إنّ الخوف من الحكام وبطشهم. والخوف على الأرزاق ولقمة العيش. والخوف على النفس والحياة. والخوف على الأبناء والنساء. والخوف على متاع الدنيا. هو الذي فتح الطريق أمام الطغاة والجبابرة ليستعبدوا الشعوب ويدجنوها. فلو استقاموا على الهدى وما تخاذلوا عن الحق، وثاروا على الباطل وما سكتوا عليه، وتمرّدوا على الظلم وما ركنوا له، ما كانوا ليحيوا حياة الذل والهوان. ولما تسلط عليهم أعداء الله وأعوانهم. ” عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ “.[ رواه أبو داود] وفي حديث آخر لعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قال : ” سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ “. [رواه أحمد].