علم ينتفع به – أضواء على العلاقات الدولية
من إرث المرحوم بإذن الله تعالى الأستاذ محمد موسى- أبي عماد
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد: موضوع حلقتنا لهذا اليوم هو بعنوان: ((الدولة والمصالح في العلاقات الدولية)) وهو من إرث المفكر السياسي المرحوم بإذن الله تعالى محمد موسى أبي عماد. ولكن قبل البدء في الحديث عن هذا الموضوع نعرض إلى مصطلح: ((العلاقات الدولية) كما بينه المؤلف رحمه الله، ثم ندخل في الموضوع.
يقول المؤلف حول مصطلح الدولة والمصالح في العلاقات الدولية:
تنشأ العلاقات الإنسانية جراء سعي الإنسان لإشباع حاجاته العضوية والغرائزية التي أودعها الله فيه أو ما يسمى بالطاقات الحيوية أو الجوعات. فحتمية العلاقات من حتمية وجود هذه الحاجات. وينشأ من الحاجة للإشباع وتنظيمه, ومن العلاقات وتنظيمها المصالح والمجتمعات, كما تنشأ العلاقات بين المجتمعات الإنسانية والعلاقات بين الدول بجميع أشكالها.
فمصطلح ((العلاقات الدولية)) يشمل في معناه العريض التداخل بين الدول, أي انتقال الناس والأفكار والبضائع عبر الحدود. وزاوية دراستها إنما تتركز على الكيفية التي تقوم بها الدول بتكييف مصالحها مع مصالح الدول الأخرى؛ لأن عملها رعاية المصالح.
ثم يبدأ المؤلف رحمه الله تعالى بالحديث عن موضوع ((الدولة والمصالح في العلاقات الدولية )) فيقول:
الدولة والمصالح
في العلاقات الدولية
تصوغ الدولة مصالحها لاعتبارات ذاتية فتحددها على ضوء ما تريد حمايته وما تريد تحقيقه, ثم تصوغها في أهداف قابلة للتنفيذ, فتحمل تلك الأهداف للحلبة الدولية بما يسمى بالسياسة الخارجية. والمصالح التي تتبناها الدولة قد تكون مصالح للأمة بمجموعها. وقد تكون مصالح الفئة الأقوى فيها, وبهذا تضمن الدولة الدعم الداخلي لسياستها الخارجية.
وهذه المصالح قد تكون مبدئية كنشر رسالة الأمة أو قيمها, وقد تكون مادية كالسيطرة على مناطق استراتيجية أو مناطق غنية بالمواد الخام أو فتح أسواق تجارية. وقد تكون معنوية بحتة كاعتبارات العظمة والكرامة. وقد تتحكم الظروف والموقع في تحديد بعض هذه المصالح, وعندئذ فإن على الدولة أن تدخلها تحت مظلة مصالح الأمة أو قيمها حتى تحظى بالدعم الشعبي.
وتضع كل دولة مصالحها على شكل سُـلَّم بحسب الأولوية, وتحتل المصالح الحيوية قمة السُـلَّم. والمصالح الحيوية هي المصالح التي تكون الدولة عادة مستعدة للدخول من أجلها في حرب فورية مع الخصم, كالحفاظ على الاستقلال وعلى النظام وعلى وحدة الأراضي وحفظ هيبة الدولة من الإذلال المهين. وتطول قائمة المصالح الحيوية بما يتناسب مع قوة الدولة ومكانتها الدولية. ثم تأتي بعدها المصالح الثانوية مرتبة حسب الأهمية. وتجري المساومات الدولية في العادة على المصالح الثانوية, فمنها تكون الغنائم وعنها يجري التنازل إذا اقتضت الحاجة.
ولا تسعى الدولة لتحقيق جميع مصالحها الحيوية والثانوية في وقت واحد, وإنما تختار منها حسب إلحاح الحاجة وحسب الظروف, فهامش خيارات الدولة قد يكون واسعاً مما يتيح لها فرصة تعدد الخيارات والبدائل, وقد يكون ضيقاً مما يحتم على الدولة انتظار الظروف المواتية لتحقيق بعض مصالحها, إلا أن الدولة الحية تعمل على إيجاد الظروف المواتية لا أن تنتظر حدوثها. ولدى بعض الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا إدارات للأزمات مهمتها خلق الأزمات للغير تهيئة للظروف.
من هنا كان من الطبيعي أن تختلف مصالح دولة ما عن مصالح دولة أخرى, بل وأن تتغير بعض مصالح الدولة الواحدة من وقت لآخر, فما تراه اليوم مصلحة قد لا تراه غداً كذلك, والعكس صحيح. لذلك تقوم الدول من وقت لآخر بإعادة صياغة مصالحها. وقد تتطابق مصالح لدولتين, وقد تتناقض في حالات معينة أو ظروف معينة, ولكن جميع المصالح لا تتطابق أو تتناقض في جميع الحالات أو على الدوام, حتى إن مصالح المتحاربين قد تلتقي في جعل الحرب محدودة. ومن هنا فإن جل مصالح الدول هي مزيج من التوافق والتنازع, مما يجعل الصراع بين الدول حتمياً ودائمياً وليس حالة عرضية أو مرضية تبرز بين الفينة والأخرى على شكل نوبات, ومما يجعل الصفقات الدولية بين الدول تحتل مكاناً بارزاً في العلاقات الدولية.
وتشكل العلاقات بين الدول بناء على ما توليه تلك الدول من أهمية لمصالح معينة, فإن هي غلَّبت المصالح المتوافقة فأبرزتها ساد الوئام والسلام, وإن سعت إلى تحقيق تلك المصالح أقامت الأحلاف فيما بينها, وإن غلَّبت المصالح المتناقضة فأبرزتها ساد التوتر, وإن سعت إلى تحقيق تلك المصالح المتناقضة فجَّرت الحروب فيما بينها. وكما تجد الدول المتصارعة وحتى المتحاربة من المصالح ما تتفاوض عليه, تجد الدول المتحالفة من المصالح ما تتصارع عليه. فالدول المتصارعة تتساوم, والدول المتحالفة تتصارع.
والسلام في العلاقات الدولية مصلحة, ولكنه لا يطلب لذاته, والمناداة به لذاته دجل وخداع, ويكون السلام متطلباً إذا كان يحقق الأمن ويحقق مصالح, وإذا طلب من أجل ذاته فإنه سيكون على حساب الأمن ويكون على حساب المصالح فيكون سلام الذل والمهانة. ويبقى الأمن على الدوام من المصالح الحيوية, ويتوفر بتوفر الحفاظ على المصالح. والأمن نسبي فلا يوجد أمن مطلق لأية دولة ما دام هناك مجتمع دولي وبخاصة في عصر السرعة, عصر الصواريخ العابرة للقارات, والطائرات بعيدة المدى الحاملة لأسلحة الدمار الشامل والدمار الجزئي, والأمن المطلق لآية دولة يعني عدم الأمن للدول الأخرى, فإن سعت دولة ما لتحقيق الأمن المطلق فإنها تثير التوتر الدولي لأنها بعملها هذا تعرِّض أمن الدول الأخرى للخطر. ومع أن الأمن نسبي إلا أنه لا بدَّ من أن يحقق في حده الأدنى المصالح الحيوية والأساسية وإلا لا يعتبر أمناً, ولكونه نسبياً فإنه يختلف من دولة لأخرى, وذلك على ضوء قوة الدولة أو ضعفها, أو على ضوء كثرة المصالح الحيوية للدولة أو قلتها.
وتحدد المبادئ التي تعتنقها الأمم لهذه الأمم مصالحها الحيوية, لأنها تحدد لها رسالاتها وقيمها التي ستحملها للأمم الأخرى, فتعطي بذلك لدول هذه الأمم بُعدها الدولي, فتكون الدولة محلية أو إقليمية أو عالمية حسب رسالتها.
والدولة ذات الرسالة العالمية دولة عالمية بغض النظر عن حجمها أو قوتها ابتداء. فلم يكد الرسول صلى الله عليه وسلم يرسِّخ دولته في المدينة وما حولها حتى بعث برسله إلى ملوك العالم, وعلى رأسهم قيصر الروم وكسرى فارس, يدعوهم إلى الإسلام, ولم نكد الدولة الإسلامية تستقر في الجزيرة العربية حتى سيَّر أبو بكر رضي الله عنه الجيوش لمنازلة دولتي الروم والفرس, أعظم دولتين في ذلك الوقت. ويحيط بالجزيرة العربية من جهات ثلاث بحار هادرة لم تكن للعرب دراية بها وركوبها, بينما يحيط بها من الجهة الرابعة بحر من الرمال الشاسعة. ومع كل هذه الصعوبات خرجت الجيوش الإسلامية الفاتحة لأعظم إمبراطوريتين. وإذا دلَّ ذلك على شيء فإنما يدلُّ على قوة الرسالة وقوة الإيمان بالرسالة وبالمسؤولية عن هداية العالم.
ومثال آخر: أن روسيا القيصرية كانت ابتداء دولة محلية تعمل على توحيد العنصر الروسي, ثم أضافت لنفسها بعداً جديداً محدوداً عندما جعلت من نفسها مسئولة عن الجنس السلافي الذي يشكل العنصر الروسي جزءاً منه, ثم وسَّعت هذا البعد عندما جعلت من نفسها حامية للنصارى الأرثودوكس فأصبحت قوة إقليمية كبرى. ولما حلَّ النظام الشيوعي محلَّ النظام القيصري وأصبحت روسيا تعمل على إيجاد الثورة العمالية العالمية, فقد أصبحت دولة عالمية.