وقفات مع النفس – عز القناعة وذل الطمع
ونستمر معكم في هذه الوقفات مع النفس ،، مستذكرين فيها فضائل وأمور اختلطت علينا وتداخلت معانيها ومفاهيمها وسلوكياتها ،، ودعونا نرى ما هي وقفتنا اليوم ،،
رحم الله ايام رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة حيث كان أحدهم يكاد لا يجد قوت يومه ويكون راضياً قانعاً بحياته وبما عنده ،، والناظر الآن إلى حال الناس يرى العجب العجاب ،،أموال وبيوت فارهة مليئة بما يلزم وبما لا يلزم من وسائل الراحة والرفاهية ولكنه غير قانع ويطمع في المزيد حتى لو اضطره ذلك إلى ارتكاب الحرام والموبقات لنيل ذلك .
إذن وقفتنا اليوم هي حياتنا بين القناعة والطمع ، ولنبدأ بهذا الحديث النبوي الشريف ومعانيه العظيمة الشاملة البليغة: (من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا) [الترمذي وابن ماجه.
إذن القناعة هي الرضا بما قسم الله، ولو كان قليلا، وهي عدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وهي علامة على صدق الإيمان. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقَنَّعه الله بما آتاه) [مسلم] ولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر مثل وقدوة فقد كان صلى الله عليه وسلم يرضى بما عنده، ولا يسأل أحدًا شيئًا، ولا يتطلع إلى ما عند غيره، فكان يعمل بالتجارة في مال السيدة خديجة -رضي الله عنها- فيربح كثيرًا من غير أن يطمع في هذا المال، وكانت تُعْرَضُ عليه الأموال التي يغنمها المسلمون في المعارك، فلا يأخذ منها شيئًا، بل كان يوزعها على أصحابه.وكان ينام على الحصير، ويأكل ما يقيم أوده .
وكذلك حياة الصحابة مليئة بقصص القناعة فعلى سبيل المثال لا الحصر نرى سلمان الفارسي -رضي الله عنه- حينما كان واليا على إحدى المدن، وكان راتبه خمسة آلاف درهم يتصدق بها جميعًا، وكان يشتري خوصًا بدرهم، فيصنع به آنية فيبيعها بثلاثة دراهم؛ فيتصدق بدرهم، ويشتري طعامًا لأهله بدرهم، ودرهم يبقيه ليشتري به خوصًا جديدًا.
وعن أبي ذر – رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: « يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ ” قلت: نعم يا رسول الله، قال: “فترى قلة المال هو الفقر؟ ” قلت: نعم يا رسول اللّه. قال: “إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقره.
ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه خطيبًا في الناس على المنبر يقول: “إن الطمع فقر، لان اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه “.
وأوصى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه- ابنه فقال: “يا بني، إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفد”.
وسئل أبو حازم فقيل له: “ما مالك؟” قال: “لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة باللّه، واليأس مما في أيدي الناس”. وقيل لبعض الحكماء: “ما الغنى؟” قال: “قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك”.
وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي – رحمه الله تعالى-: “من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه.
إذن – مستمعينا الكرام – الإنسان القانع يحبه الله ويحبه الناس، والقناعة تحقق للإنسان خيرًا عظيمًا في الدنيا والآخرة، وفضائلها كثيرة،، فهي سبب البركة، فهي كنز لا ينفد، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنها أفضل الغنى، فقال: (ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس) [متفق عليه .
والإنسان الطماع لا يشبع أبدًا، ويلح في سؤال الناس، ولا يشعر ببركة في الرزق، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تُلْحِفُوا (تلحوا) في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فتُخْرِجُ له مسألتُه مِنِّي شيئًا، وأنا له كاره، فيبارَكُ له فيما أعطيتُه) [مسلم والنسائي وأحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعففْ يعِفَّهُ الله، ومن يستغنِ يغْنِهِ الله) [متفق عليه .
فالمسلم عندما يشعر بالقناعة والرضا بما قسمه الله له يكون غنيا عن الناس، عزيزًا بينهم، لا يذل لأحد منهم.أما طمع المرء، ورغبته في الزيادة فهذا يجعله ذليلاً إلى الناس، فاقدًا لعزته، قال صلى الله عليه وسلم: (وارْضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)الترمذي وأحمد. فالعز في القناعة، والذل في الطمع، ولذا جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعًا: « شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس » وقد قال الإمام علي-رضي الله عنه-: الطمع رق مؤبد . وقال أحد الحكماء: من أراد أن يعيش حرًّا أيام حياته؛ فلا يسكن قلبَه الطمعُ. وقيل: عز من قنع، وذل من طمع. وقيل: العبيد ثلاثة: عبد رِقّ، وعبد شهوة، وعبد طمع.
والقناعة طريق الجنة: بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المسلم القانع الذي لا يسأل الناس ثوابُه الجنة، فقال: (من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئًا وأتكفل له بالجنة ؟)، فقال ثوبان: أنا. فكان لا يسأل أحدًا شيئًا. [أبو داود والترمذي وأحمد.
والقناعة سبيل للراحة النفسية، فالمسلم القانع يعيش في راحة وأمن واطمئنان دائم، أما الطماع فإنه يعيش مهمومًا، ولا يستقر على حال. وفي الحديث القدسي: (يابن آدم تفرغْ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى، وأَسُدَّ فقرك. وإن لم تفعل، ملأتُ صدرك شُغْلا، ولم أسُدَّ فقرك) [ابن ماجه.
وقال أحد الحكماء: سرور الدنيا أن تقنع بما رُزِقْتَ، وغمها أن تغتم لما لم ترزق .
وكذلك فإن القناعة تقي من من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات:كالحسد والغيبة والنميمة والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالبًا ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها. فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.
قال ابن مسعود – رضي الله عنه- “اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله؛ ولا تحسد أحدًا على رزق الله، ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله تبارك وتعالى- بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط”.
وتلك حقيقة لا شك فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه، ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غدِه! فالعلة في القلوب: رضًى وجزعًا، واتساعًا وضيقًا، وليست في الفقر والغنى.
ولكن لننتبه لنقطة مهمة وهي أنه لا قناعة في فعل الخير، فالمسلم يقنع بما قسم الله له فيما يتعلق بالدنيا، أما في عمل الخير والأعمال الصالحة فإنه يحرص دائمًا على المزيد من الخيرات، مصداقًا لقوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} [البقرة: 197]. وقوله تعالى: { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران 133.
إذن إخوتي وأخواتي لنحرَص على القناعة والرضا بما قسم الله تعالى ولا نطمع في أكثر من رزقنا الذي قدره الله لنا
وأختم بهذه الأبيات التي نسائل بها أنفسنا :
هـي القنـاعة لا تـرضى بهــا بـدلا ********** فيهــا النعيـم وفيهــا راحـة البـدنِ
انظـر لمـن ملــك الدنيـا بأجمـعـها ********** هـل راح منها بغيــر القطـن والكفـنِ