علم ينتفع به- عناصر قوة الدولة
من إرث المفكر السياسي
المرحوم بإذن الله تعالى محمد موسى (أبي عماد)
تؤثر الدولة في قرارات الدول الأخرى وفي المسرح الدولي بفعل قوتها. وهذه القوة يعتورها التَّغير والتبدُّل فيتغير تأثيرها سلباً أو إيجاباً تبعاً لذلك. وقوة الدولة لا تنحصر في القوة العسكرية, وإنما هي تشمل كل ما تستطيع الدولة حشده لحماية مصالحها وبلوغ أهدافها.
فالدول لا تفتأ تستعمل القوة بعضها ضد بعض, أو تلوِّح باستعمالها. وحتى إن لم تستعملها أو تلوِّح باستعمالها فإن مجرَّد وجودها له تأثير على الدول الأخرى, إذ لا يمكن لدولة ما أن تتجاهل احتمال استعمال دولة أخرى لتلك القوة, فهي تمثل تهديداً محتملاً, وهي تلوح دائماً وراء تصرفات الدول في العلاقات الدولية. ودرجة استعمال تلك القوة, أو التلويح يعتمد على المصلحة موضوع المساومة أو الصراع, وعلى الخصم الذي تستعمل ضده تلك القوة. ولا قيمة للقوة إذا لم تكن هناك إرادة لاستعمالها.
والعناصر المؤثرة في قوة الدولة, بل المكونة لها ستة هي:
1. وجهة النظر عن الحياة.
2. العامل الاقتصادي والتكنولوجي.
3. العامل الديمغرافي.
4. القوة العسكرية.
5. العامل الجغرافي.
6. الدبلوماسية.
1. وجهة النظر عن الحياة: وهي المبدأ والأيدلوجية والقيم العالمية, وهي رسالة الأمة لغيرها من الأمم, وهي تبني شخصية الأمة وتوجهاتها وتطلعاتها العالمية, وتحدد الكثير من مصالحها. فالأمة المبدئية تحسُّ بل وتؤمن بمسئولياتها عن غيرها من الأمم, فتعدَّ نفسها لذلك الدور, وتصوغ مصالحها على مستوى العالم.
والمبادئ لا تعترف بالحدود, فهي تنتقل مع الأفراد وعبر وسائل الإعلام بأنواعها, حتى أنها لتنتقل مع الهواء, فينتقل أثر الدولة ونفوذها إن لم ينتقل سلطانها مع انتقال مبدئها العالمي حتى في الدولة الخصم, مما يعطيها قوة على الساحة الدولية. وكما يساهم المبدأ في صياغة المصالح فإنه يحدد كيفية سلوك الدولة مما يعطيها شخصية متميزة وأثراً فاعلاً.
ودون المبدأ قوة وشمولاً القيم التي تتمثل بها الدولة. وفد تكون القيم جزءاً من مبدأ, وفد تكون أثراً من آثاره, كالفردية والحرية والديمقراطية. وكما يشكل المبدأ الأمة, فإنه يصوغ حياتها بنمط معيَّن, ويصبغها بصبغة معينة, فيجعل منها مثلاً يحتذى من قبل الآخرين, أو ينفرهم منها حسب صلاح المبدأ.
كما يمكن أن يدخل في هذا الباب قوة الدعاية. والدعاية أداة لنشر المبدأ والقيم ووجهة النظر ونمط العيش. وحسن الدعاية له أثر فاعل في إيجاد الرأي العام العالمي المؤيد. كما يمكن أن يدخل في هذا الباب التجربة التاريخية للأمة التي ساهمت في بناء تجربتها وصياغة توجهاتها. فهناك أمم توجهها عسكري كالألمان, وهناك أمم توجهها تجاري وسياسي كالإنجليز. كما ويمكن أن يدخل فيه العامل المعنوي الذي يأخذ صفة الشمول في الأمة حتى يصبح سمة من سماتها. فالإيطاليون لا يحتملون الصمود في القتال, والفرنسيون كانوا ينهارون لدى أول هجوم ألماني.
ولا بد من التنويه إلى أن من المبادئ ما يكون أداة من أدوات الدولة تستعمله في تحقيق مصالحها وتتخلى عنه جزئياً أو كلياً إذا فشل في ذلك كالرأسمالية والشيوعية, ومنها ما تكون الدولة أداة له, فهو قبل الدولة, وهو يحدد مصالح الدولة وتوجهاتها وعلاقاتها كالإسلام.
2. العامل الاقتصادي والتكنولوجي: فالاقتصاد شريان القوة, وسرعان ما تتحوَّل القوة الاقتصادية إلى قوة عسكرية. وقد أصبحت التكنولوجيا تمثل فتحاً قوياً في قوة الدولة ومنها القوة العسكرية. وقد أدت القفزات النوعية في التكنولوجيا إلى قفزات نوعية في الصناعات مما أوجد هوَّة واسعة بين الدول المتقدمة والدول المتأخرة من العسير جسرها. فالتفوق التكنولوجي يعني تفوقاً في الأسلحة الفتاكة مما يؤثر في ميزان القوى. والمزاوجة بين الاقتصاد القوي والتكنولوجيا المتقدمة تولد القوة, لذلك فإن الدولة التي تجمع بين الأمرين تحقق لنفسها القوة والمركز الدولي. ويحتل هذا العامل مكانة جعلت باحثاً مثل بول كنيدي يجعل منه السبب الأول في صعود الدول للقمة وقي أفولها. ولأهمية التكنولوجيا تعمد الدول المتقدمة إلى إنفاق أموال خيالية على مراكز الأبحاث.
ومن جهة أخرى فإن الدولة تستطيع بقوة اقتصادها أن تؤثر في العلاقات الدولية وذلك بتقديم القروض والمساعدات الاقتصادية, لدرجة أن تقديم المساعدات أصبح بعد الحرب العالمية الثانية أسلوباً جديداً للاستعمار, بها تَربطُ الدولة المقدِّمة الدولَ الأخرى بها وتؤثر في قراراتها لصالحها. وقد بذَّت أمريكا غيرها من الدول في هذا المجال, فربطت الكثير من الدول الفقيرة بعجلتها بالمساعدات. وكانت تجبر الدول الفقيرة على أخذ المساعدات إن وجد منها من يرفض أخذها. وقد زاد عدد الدول التي كانت تتلقى المساعدات الأمريكية في وقت من الأوقات عن مئة دولة. ومن هذا الباب تحاول أمريكا أن تجعل إسرائيل تتنازل عن أمور تراها إسرائيل حيوية لها.
وقد كان لهذا العامل الأثر الأكبر في صعود أمريكا للقمة, وفي انهيار الاتحاد السوفيتي بالرغم من أنه يعادل في قوته العسكرية قوة الولايات المتحدة لأن هذه القوة العسكرية لم تكن ترتكز إلى على أساس اقتصادي وتكنولوجي متين.
3. العامل الديمغرافي: وهو عدد السكان والمؤثرات فيهم وتوجهاتهم, أي نسبة التكاثر عندهم وهيكلهم, أي النسبة بين الرجال والنساء, ونسبة الشباب فيهم. وهذا عامل مؤثر في قوة الدولة. ويبرز أثره أكثر إذا تساوت الدول في الأمور الأخرى. وقد كان هذا العامل مؤثراً في قوة الدولة الألمانية بالنسبة لفرنسا, فقد كانت ألمانيا أكثر سكاناً وأسرع تكاثراً. ولأهمية هذا العامل تعمد الدول الكبرى المستعمرة والطامعة إلى إغراء شعوبها على زيادة النسل بتقديم المساعدات للمواليد, وبزيادة المساعدات كلما زاد عدد المواليد للعائلة, أي أن المساعدات طردية. كما تعمد في الوقت نفسه إلى دفع دول العالم الثالث, وبخاصة الدول التي قد يبرز منها خطر قي المستقبل كالبلاد الإسلامية على تحديد النسل كمعالجة لفقرها بدل أن تأتي معالجة الفقر من حفاظ على الثروات من نهب الدول الكبرى, ومن استغلال حقيقي لهذه الثروات, ومن التصنيع الفعَّال.
نكتفي في هذه الحلقة بالحديث عن العناصر الثلاثة الأولى من عناصر قوة الدولة, ألا وهي:
1. وجهة النظر عن الحياة.
2. العامل الاقتصادي والتكنولوجي.
3. العامل الديمغرافي.