أعذار المُعذِّرينَ عن حمل الدعوة- ج1
إنَّ حَملَ الدَّعوة الإسلامية هو أجلُّ فرض, وأشرفُ عمل يقوم به المسلم, وهو أعظمُ مصدر لجني الحسنات, ونيل المنازل والدرجات, وقبل ذلك كله نيل رضا رب الأرض والسماوات, لكنَّ طريقه طويلٌ وصعبٌ وشاقٌّ, لذلك نجد أن البعض ممن يحملون الدعوة قد أخذوا يتساقطون في ثنايا الطريق, ويُحجمُون عن متابعة أمر الدعوة والمشاركة فيها, فيبدؤون باختلاق الأعذار والحجج عن الاستمرار في حمل الدعوة أو التنكب عنها أو التقاعس فيها, وتراهم يُسوِّغُون تقصيرهم هذا بأعذار يظنونها أسباباً وجيهة ومقبولة يُعذرون بها يوم القيامة, وتبرئهم عند الله تعالى, ولكنها في الواقع غير ذلك. وفي هذه الحلقة نحدثكم عن الأعذار الثلاثة الأولى التي يتعذر بها بعضٌ هؤلاء المُعذِّرين عن حمل الدعوة وهي:
أولاً: انشغالهم في طلب الرزق.
ثانياً: الخوف على أنفسهم وحياتهم من الأنظمة القمعية.
ثالثاً: التعلل بكبر السن. وفي الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى سنكمل باقي الحديث.
وقبل البدء في عرض بعض هذه الأعذار, أتطرق إلى معنى لفظة العذر: ورد في معجم مختار الصحاح للإمام أبي بكر الرازي. قال: [ع ذ ر اعتذر من الذنب, واعتذر أيضاً بمعنى أعذر, أي صار ذا عذر, وتعذر أيضاً أي اعتذر واحتجَّ لنفسه, وقوله تعالى: (وجاءَ المُعذِّرون من الأعراب) يُقرأ مشدداً ومخففاً: فالمُعذِّرُ بالتشديد قد يكون مُحقاً, وقد يكون غير مُحق. فالمُحقُّ هو في المعنى المُعتذر لأن له عذراً, ولكنَّ التاء قلبت ذالاً وأدغمت في الذال, ونقلت حركتها إلى العين. وأما الذي ليس بمحقٍّ فهو المُعذِّرُ, على جهة المُفعِّـل لأنه المُمرِّضُ والمُقصِّرُ, يعتذرُ بغير عُذر. وقرأ ابن عباس(وجاءَ المُعذرون) بالتخفيف من أعذر, وقال: والله لهكذا أنزلت, وكان يقول: (لعن الله المعذِّرين) كأن عنده أن المُعذِّر بالتشديد: هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة. والمُعذر بالتخفيف: الذي له عذرٌ].
وورد في معجم المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني قال: [ عُذر ـ العذر: تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه. ويقال: عُذْرٌ وعُذُرٌ, وذلك على ثلاثة أضرب: إما أن يقول: لم أفعل. أو يقول: فعلتُ لأجل كذا. فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنباً. أو يقول: فعلتُ ولا أعود, ونحو ذلك من المقال, وهذا الثالث هو التوبة. فكلُّ توبة عُذرٌ, وليس كل عذر توبة. واعتذرت إليه: أتيت بعذر. وعذرته: قبلت عذره. قال تعالى: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا). (التوبة 94). والمُعذِّرُ: من يرى أن له عذراً ولا عذر له. قال تعالى: (وجاءَ المُعذِّرون). (التوبة 90). وقرئ (المُعذرون). وبها قرأ يعقوب الحضرمي. (انظر إرشاد المبتدي صفحة 355) أي الذين يأتون بالعذر. قال ابن عباس: « لعن الله المُعذِّرين, ورحم الله المعذَّرين ». (انظر الدُّر المنثور 4/260) و( الأضداد لابن الأنباري صفحة 321).
وعليه فالمعذِّرون عموماً هم المقصِّرون الذين يختلقون الأعذار, المظهرون لها, ولا عذر لهم على الحقيقة, ويظهرون الأعذار اعتلالاً. وسأعرض على مسامعكم أبرز أعذار هؤلاء المُعذِّرين عن حمل الدعوة لعلها أن تكون ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أن يعيد حساباته, ولعلها تدفع من يترك فرض حمل الدعوة أو يقصر فيها لأن يراجع نفسه, ويقوم من فوره ويلحق بركب الخير, فيرضي ربه, ويفوز بعز الدنيا ونعيم الآخرة.
للمعذِّرين عن حمل الدعوة أعذار كثيرة, تختلف باختلاف الأفراد والبلدان والأحوال. وأكتفي في هذا المقام بذكر أبرز هذه الأعذار:
أولاً: يعتذر بعض هؤلاء المعذِّرين عن حمل الدعوة بانشغالهم في طلب الرزق, ويُذهبون جُلَّ وقتهم في طلبه, ويتعللون بقلة ذات اليد, وحاجة الأهل والأولاد, فيعتذرون عن حمل الدعوة أو عن بعض أعمالها, فيظهر عليهم التقصير والتنكب والتقاعس فيها, ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الرزق بيد الله وحده, وأنه مكفول لهم, ولا يمنعه عنهم أحدٌ من الخلق, وهذا أمر عقائدي يجب الإيمان به, وإن طلب الرزق لم يمنع الصحابة والتابعين ومن تبعهم من حمل الدعوة والمساهمة فيها لإيمانهم المطلق بذلك, وإن السعي لطلب الرزق ليس هو سبب الرزق. إنما سبب الرزق هو أنه بيد الله وحده, وهو من القضاء. فمن كان هذا حاله لا بدَّ من علاج ذلك عنده وفوراً قال تعالى: (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). (النمل 64)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ رُوح القُدُس نفث في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها وما قُدِّر لها, فاتقوا الله وأجملوا في الطلب, ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله, فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته». رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وأبو نعيم عن جابر والبزار عن حذيفة, والحاكم عن ابن مسعود وأبو نعيم عن أبي أمامة.
ثانياً: يعتذر بعض هؤلاء المُعذِّرين عن حمل الدعوة خوفاً على أنفسهم وحياتهم من الأنظمة القمعية القائمة في بلاد المسلمين, فيخشون من تنكيل وبطش الحكام وزبانيتهم, فيمتلكهم الخوف والرعب والقلق من هذه الأنظمة, ويسيطر هذا الأمر على حياتهم, فتراهم يعتذرون عن حمل الدعوة كلياً, أو عن بعض أعمالها, فلا يشاركون فيها مخافة أن يتعرضوا للأذى, حتى إنك لتجد أن بعضهم قد أخذ يبتعد عن حمله الدعوة لئلا يراه جواسيس وعيون الظلمة فيشتبهون به, أو مخافة أن يقال: هذا أحد حملة الدعوة, أو خشية أن يمنع من السفر أو من الحصول على جواز سفر, أو خشية أن يمنع من أخذ شهادة حسن السلوك من عند هذه الأنظمة, فلا يوظف بوظيفة حكومية. واحتمالَ أن يعفى أو يطرد من وظيفته, أو يوقف راتبه, أو مخافة أن يوضع اسمه في القائمة التي تسميها دول الضرار القائمة بالقائمة السوداء, ويسمى ملفه عندهم بأنه ملف أمن دولة, فيصبح من المغضوب عليهم.
لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أنه لن يصيبهم إلاَّ ما كتب الله لهم, ونسوا أن أجلهم بيد الله, وأن السبب الوحيد للموت هو انتهاء الأجل, قال تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). (الأعراف 34). وقال: (قل لن يصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون). (التوبة 51). فمن كان هذا حالهم يقال لهم: أليس هذا الأمر من العقيدة التي يجب عليكم الإيمان بها؟ أم أنكم تقولون هذا بألسنتكم فقط, ولكنكم لا تؤمنون به إيماناً جازماً ولا تعتقدون به؟ فالمشكلة عندكم كبيرة ويجب علاجها فوراً.
ثالثاً: يعتذر بعض هؤلاء المعذِّرين عن حمل الدعوة بالتعلل بكبر السن كأن يقول أحدهم: كبرت سني, ورقَّ عظمي, وإلى هنا وكفى, ويكفي ما قدمت لهذه الدعوة, فتاريخي كبير في هذه الدعوة, وأترك أمر الدعوة للشباب صغار السن. ويتصور هذا الأخ أن الدعوة يعتريها التقاعد والإحالة على المعاش! أما علم أن القافلة سائرة ونهايتها الجنة, فإن تقاعد عنها فلا يُلتـفتُ إليه. ومن قال: إن للفروض والأعمال الصالحة سنٌ محددة؟ قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).(الحجر99)
قال الحسن البصري: « لم يجعل الله للعبد أجلاً في العمل الصالح دون الموت». وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ورقة بن نوفل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « وإن يدركني يومُك أنصرْك نصراً مؤزراً». مع كبر سنه وذهاب بصره, وقد تمنى أن يكون فيها جّذِعاً قوياً فيكون نفعه أكبر, وأثره أكثر.
إن كبر السن يجب أن يكون دافعاً لحمل الدعوة, لا للتقاعد عنها, فمن مدَّ الله في عمره عليه أن يبذل للدعوة أكثر خصوصاً أنه يقترب من نهاية أجله, وبحاجة إلى أن يختم حياته بالطاعات والتقرب إلى الله. فما بالك بأوجب الفروض وتاجِها, حمل الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ إن وجود كبار السن في الدعوة وهم يحملون الدعوة, ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يخدم الدعوة بشكل عظيم, وله أثر كبير, فوجود كبار السن بحدِّ ذاته دعوة للدعوة, ومن أسباب نجاح الأعمال الجماهيرية للدعوة بعد توفيق الله وجودُ كبار السن فيها. وإن وجود كبار السن في الدعوة يثبِّت ويدفع صغار السن في الدعوة, فهم أصحاب خبرة وتجربة, ومنهم نرى كيفية التحدي والسفور, وعدم المداهنة في حمل الدعوة. وإن وجود كبار السن في الدعوة وهم يحملون الدعوة ويقومون بأعمالها لَيجعلَ للدعوة هيبة في نفوس الحكام وزبانيتهم, ويوجدَ لها الاحترام بين الناس. وأي أجر وثواب وفائدة أعظم من هذا؟ فهل بعد ذلك يُتصوَّر أن يطلب أحدٌ منهم التقاعُدَ عنها؟
قال الإمام الشافعي: « طلب الراحة في الدنيا لا يَصلُح لأهل المروءات, فإن أحدهم لم يزل تعباناً في كل زمان». وسئل أحد الزهاد عن سبيل المسلم ليكون من صفوة الله, قال: « إذا خلع الراحة, وأعطى المجهود في الطاعة». وقيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: «عند أول قدم يضعها في الجنة».
نكتفي في هذه الحلقة ببعض الأعذار التي يتعذر بها بعضٌ هؤلاء المُعذِّرين عن حمل الدعوة، على ان نتابع معكم هذا الموضوع في الحلقة القادمة ان شاء الله.