دروس وعبر من الهجرة- ج2
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وآله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
كنا قد تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض الدروس والعبر المستفادة من الهجرة النبوية, وهي:
1. عيد الأضحى وعيد الفطر هما فقط العيدان الشرعيان للمسلمين.
2. الهجرة مرحلة من مراحل الدعوة, وخطوة من خطوات بناء الدولة الإسلامية.
3. الهجرة تكليف لنا بإيجاد دولة الخلافة والحفاظ عليها.
وفي هذا اللقاء معكم نستكمل الحديث عن بعض الدروس والعبر المستفادة من الهجرة النبوية.
وأول هذه الدروس والعبر هو العناية بالقاعدة الفكرية: فعلينا نحن المسلمين أن نعتني بالقاعدة الفكرية أي بالعقيدة الإسلامية, فإن الأمة التي يجتاحها عدوها فيهدم مصانعها وعمرانها وجيشها, والقاعدة الفكرية لديها سليمة, لا تفتأ أن تعود أقوى مما كانت! وإن أمة ليست لديها القاعدة الفكرية , وليست لديها العقيدة الصحيحة إن اجتاحها عدوها ستندثر وسيمر التاريخ ليقول: إن أمة كانت هنا ثم ذهبت! وعلينا أن نقف سداً منيعاً أمام التيارات الملحدة, وأفكار الكفر كالاشتراكية والشيوعية, والرأسمالية, والقومية, والوطنية, والإقليمية, والديمقراطية, وما شاكلها!
علينا أن نجعل الإسلام محور تفكيرنا واهتمامنا وأن يكون مادة فكرنا في مناهج تعليمنا! علينا أن نسعى لنجعل معنى الهجرة مرحلة من مراحل الدعوة إلى الله ,أي أن نعلم أن إقامة دولة الإسلام فرض في عنق كل مسلم, مصداقاً لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة , مات ميتة جاهلية». والبيعة لا تكون إلا للخليفة أي للحاكم المسلم!
الهجرة النبوية ليست مجرد مراسم واحتفالات, وهنا ونحن مازلنا نعيش في ظلال وأجواء الهجرة النبوية العطرة, نتساءل فنقول:
أي معنى للهجرة هذا, والخمر تباع في الحوانيت؟ أي معنى للهجرة هذا, والذي يسب الله لا يؤاخذ, ومن يسب فرداً من أفراد الحكومة يسجن ويعذب؟
أي معنى للهجرة هذا, والمسلم قد افتقد الأمن والصحة والاستقرار؟ يركض ليل نهار خلف الرغيف, فلا يجد إلا كسرة خبز لا تسد الرمق؟
أي معنى للهجرة هذا, وأحكام الله معطلة؟ حنانيك أيها المسلم, فإن الخطباء يخطبون! وسعديك أيها المؤمن فلا زلت تسمع من المآذن الله أكبر! ويا فرحتك أيها المتقي المحب لله ولرسوله, فإن للمولد وللهجرة عيدا! أتريد أكثر من هذا ؟ وهل الإسلام إلا هذا ؟ فالإسلام بخير إذاً!
يا فرحتنا بالخطب, فقد امتلأت بطون الجائعين! يا فرحتنا بالأعياد, فقد جلبت لنا النصر والعز! يا فرحتنا, فلقد رضي الرسول ورب الرسول!
نقول بملء الفم: إن هذا لن يرضي ربنا, فالله سبحانه وتعالى قد أمرنا بفرائض علينا أن نفعلها, ونهانا عن أشياء, علينا أن نتجنبها فقال عز من قائل: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم, ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ). ( النساء 65 )
وقال لصفيه وحبيبه محمد عليه الصلاة والسلام: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله). ( المائدة 49 ) أي حكِّم الإسلام في شؤونهم واحكمهم به. فمن أراد أن يرضي الله ورسوله فلا بد أن يطبق الشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
ومن الدروس المستفادة من الهجرة التضحية والفداء: فقد ضحى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بنفسه حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم بينما كان المشركون يحيطون ببيت النبي يريدون قتله! كما ضحى أبو بكر رضي الله تعالى عنه بنفسه حين عرض نفسه للخطر بقبوله الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مطارد من قبل المشركين. كما ضحى أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله حيث جاء به, ووضعه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول: «ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟». فقال أبو بكر: أبقيت لهم الله ورسوله!
هذا وقد ضحى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بكل ما آتاه الله من طاقات, ولم يترك شيئا أو أحداً له سلطان عليه إلا سخره في خدمة الدعوة, تطبيقاً لقول الله جل في علاه : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة, ولا تنس نصيبك من الدنيا, وأحسن كما أحسن الله إليك, ولا تبغ الفساد في الأرض, إن الله لا يحب المفسدين). (القصص 77)
وهذه تضحيات أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه نجملها فيما يأتي:
1. جهز الراحلتين له وللنبي .
2. استأجر الدليل الذي يدلهما على الطريق إلى مكة المكرمة.
3. طلب من راعيه أن يطمس آثار أقدام القادمين إلى الغار .
4. كلف ابنته أسماء بجلب الطعام إلى الغار له وللنبي .
5. كلف ابنه عبد الله بتتبع الأخبار في مكة وإبلاغها للنبي .
6. جعل نفسه فداء للنبي وفي خدمته وحراسته عليه السلام.
7. وضع ماله كله تحت تصرف النبي صلى الله عليه وسلم وفي خدمة الدعوة.
كما ضحى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بنصف ماله, ووضعه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ماذا أبقيت لأهلك يا عمر؟». قال: مثل هذا يا رسول الله!
ومن دروس الهجرة النبوية أيضاً إحسان اختيار الصديق فيحرص المسلم على اختيار الصديق الصالح, فقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر صديقاً له, فكان أبو بكر نعم الصديق لصديقه! وكان الصديق الوفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم! كان يفتديه بنفسه! وكان حريصاً عليه كل الحرص, فكان وهو في طريقه إلى المدينة يمشي تارة أمام النبي صلى الله عليه وسلم, ويمشى تارة خلفه, يمشي عن يمينه تارة وطوراً عن شماله خشية أن يصبه أذى مفاجئ, فلما وصل هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى باب الغار دخله أبو بكر قبل النبي ليكتشف ما فيه, إن كان يشكل خطراً على حياة النبي ليفتديه بنفسه!
كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يدرك بفكره الثاقب أنه إذا مات, فإنما هو رجل واحد, وأن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني موت أمة, لذا كان دائماً يفتديه بنفسه, ويقول له دائماً: بأبي أنت وأمي يا رسول الله!
ومن دروس الهجرة النبوية كذلك حرص القائد على سلامة أفراد رعيته: حيث أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرته, فهاجر بعد صحابته, ولم يهاجر قبلهم وذلك ليتمكن من الاطمئنان على سلامتهم!
ولإنجاح العمل لا بد من إعداد الخطة المناسبة, وأخذ الاحتياطات اللازمة, والحذر من الأخطار التي يمكن أن تقع. حيث وضع الرسول عليه الصلاة والسلام بالتعاون مع أبي بكر الصديق خطة متكاملة للهجرة, وكانت كالآتي:
1. تضليل العدو: حيث سلك رسول الله طريقاً جنوب مكة, بينما كان المشركون يبحثون عنه شمال مكة!
2. وسيلة الركوب: راحلتان جهزهما أبو بكر الصديق.
3. الدليل والخبير بالطرق ومسالكها: وهو رجل يدعى عبد الله بن أريقط, استأجره أبو بكر الصديق, رضي الله تعالى عنه وأرضاه!
4. طمس آثار الأقدام: قام بذلك عامر بن فهيرة, وهو راع لدى أبي بكر الصديق!
5. الإمداد الغذائي: قامت بذلك أسماء بنت أبي بكر الصديق, وقد عرفت بعد ذلك بذات النطاقين؛ لأنها شقت نطاقها نصفين, انتطقت بنصفه الأول, وربطت الطعام بنصفه الثاني!
6. تتبع الأخبار السياسية: قام بذلك عبد الله بن أبي بكر الصديق , رضي الله عنهما.
ومن دروس الهجرة النبوية الثقة بنصر الله جل في علاه, فبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة, جعلت قريش مئة ناقة لمن يأتي برأسه حيا أو ميتا, فلحقه وسار في طلبه كثيرون طمعاً في الجائزة, منهم رجل يدعى سراقة بن مالك. ولما اقترب سراقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تدخلت قدرة الله, فحصلت معجزة! لقد ساخت ( أي غاصت) أقدام فرس سراقة في التراب! فعلم سراقة أن رسول الله ممنوع (أي معصوم) من قبل الله, عندها طلب سراقة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له ليفرج عنه ما هو فيه!
فدعا له وطلب منه أن يعمِّي على قريش خبر هجرة النبي وصاحبه أبي بكر, ووعده إن فعل ذلك أن يعطيه سواري كسرى وقيصر! وهذا يدل على ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكاملة بنصر الله تعالى, مع أنه صلى الله عليه وسلم مطارد أعزل من كل شيء إلاَّ من الإيمان بالله تعالى.
وقد تحققت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقد نصر الله عباده المؤمنين على الفرس والروم! وأتي بسواري كسرى وقيصر, ووضعت أمام خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقال: أين سراقة بن مالك؟ وكان سراقة يومها شيخاً كبير السن فألبسه عمر بن الخطاب سواري كسرى وقيصر, إلاَّ أن سراقة تبرَّع بهما لبيت مال المسلمين!
إن العبرة التي ينبغي أن نأخذها من حادثة الهجرة هي أن نقيس أنفسنا بمقياس الله, أن نفعل كما فعل رسول الله, أن نهجر الباطل, وأن نقبل على الحق, أن نهجر المبادئ المستوردة والأفكار المتعفنة, وشرائع الكفر, أن نتوجه إلى قرآننا وسنة نبينا نسألهما الشفاء, نسألهما الدواء! إن حال أمتنا كحال الرجل الذي وقف بجانب النهر يسأل: أأتيمم من تراب الضفة اليسرى أم من تراب الضفة اليمنى؟ ونسي أو تناسى أنه لا يجوز له التيمم مع وجود الماء , نسي القاعدة الشرعية التي تقول: (إذا حضر الماء بطل التيمم).
ونحن قد وقفنا بجانب نبع الإيمان الصافي, وحكم الله الذي لا يخطئ وشرع الله المنزل من عنده فنسأل: أنأخذ الاشتراكية أم الرأسمالية؟ ونسينا أو تناسينا أنه لا يجوز لنا إلا أخذ الإسلام! وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجر؟ فقال عليه السلام: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
وقبل الختام نقول: إن أمة لا تحترم دينها ولا تطبقه في حياتها ولا تقرأ تاريخها لتستفيد منه لهي أمة جديرة بالفناء! وسيأتي التاريخ ليكتب: إن أمة كانت هنا ثم ذهبت!
أما أهم الدروس والعبر المستفادة من هذه الحلقة فهي:
1. الحرص على سلامة القاعدة الفكرية لدى الأمة الإسلامية.
2. الهجرة ليست مجرد مراسم واحتفالات, بل هي محل الاقتداء, وموضع التأسي.
3. الهجرة دعوة للتضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الله.
4. الهجرة دعوة إلى إحسان اختيار الصديق, والحرص على اختيار الصديق الصالح.
5. حرص القائد على سلامة أفراد الرعية.
6. لإنجاح العمل لا بد من إعداد الخطة, وأخذ الاحتياطات اللازمة.
7. الثقة الكاملة بنصر الله تعالى لعباده المؤمنين.
8. الهجرة إقبال على الحق, وهجرانٌ للباطل.
وختاما نسأل الله عز وجل أن يعجل لنا بالخلاص, وان يبعث فينا إماماً مخلصاً رحيماً بأمته, يقودنا لطاعته وإقامة حكمه. وأن يكرمنا بقيام دولة الخلافة وأن يجعلنا من جنودها الأوفياء المخلصين. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.