الربا والضروريات (1)
لا يختلف مسلمان على حُرمة الربا، فالأدلة الشرعية قطعية الثبوت, والدلالة على حُرمته وفيرة، منها قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: «ٱلَّذِينَ يَأكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيطَـٰنُ مِنَ ٱلمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُواْ إِنَّمَا ٱلبَيعُ مِثلُ ٱلرِّبَوٰاْ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلبَيعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ»، وقوله سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»
(آلعمران: ١٣٠)
أما من السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية» (رواه أحمد)، وقوله صلى الله عليه وسلم «الربا سبعون حوباً أيسرها أن ينكح الرجل أمه» (رواه ابن ماجه).
فالربا محرمٌ شرعاً ولم يختلف على حُرمته أحدٌ من المسلمين، ولكنا نرى من المسلمين من يُحِل أنواعاً من التعاملات الربوية بحججٍ ليس لها أصلٌ من الشرع. وفي هذا المقال سنلقي الضوء على بعض هذه المعاملات الربوية وسندحض الحُجج غير الشرعية في جوازها. لكن قبل ذلك لا بُدّ أن نُعرِّجَ سريعاً على ما هو الربا وكيف أنَّ بيع الأجل ليس من المعاملات الربوية.
الربا هو أخذ مال بمال من جنس واحد متفاضلين. فالربا لا يكون إلاّ في بيع، أو قرض، أو سَلَم. فأما البيع فهو مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً وهو جائز، لقوله تعالى: «وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلبَيعَ». وأما السَلَم فهو أن يُسْلِم عَرَضَاً حاضِراً بعَرَضٍ موصوف في الذمة الى أجل، ويسمى سَلَماً وسَلَفاً. وهو نوع من البيع وجائز لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أسْلَف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (رواه البخاري).
وأما القرض فهو نوع من السَلَف، وهو أن يعطي مالاً لآخر ليسترده منه، وهو جائز. فقد روى أبو داود عن أبي رافع قال: «استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بِكرَه فقلت لم أجد في الإبل إلا جملاً خيارا رباعيا فقال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء»
وروى ابن حبان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يُقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة». والربا لا يقع في البيع والسَلَم إلا في ستة أشياء فقط: التمر، والقمح، والشعير، والملح، والذهب، والفضة، وذلك لِقوله صلى الله عليه وسلم: “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثلاً بمِثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد» (رواه مسلم).
وأما القرض فجائز في هذه الأنواع الستة، وفي غيرها، وفي كل ما يمتلك، ويحل إخراجه عن الملك، ولا يدخل الربا فيه إلا إذا جرَّ نفعاً لما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» (رواه الحارث بن أبي أسامة)، ويستثنى من ذلك ما هو من قبيل حُسنِ القضاء دون زيادة وذلك لما رواه أبو داود عن أبي رافع في الحديث السابق الذكر. أما إن اقترضَ رجلٌ مائة دولار مؤجلة إلى سنة يردها مائة وخمسة عند حلول الأجل، فهذا قرض ربوي.
فاقتراض مالٍ من شخص أو مؤسسة أو بنك ودفعه أكثر من القيمة المقترضة هو تعامل ربوي وإن ارتضاه الطرفان، وهو تعامل ربوي سواءً أكانت القيمة الزائدة نسبة ثابتة أم متغيرة، فالله سبحانه وتعالى حرّم الربا مُطلق الربا، ولم يأتِ دليل شرعي يُحدد نوع الزيادة في الربا (ثابتة أم متغيرة)، فالزيادة ربا. فالذي يدّعي أن الربا يحصل في حالة التضاعف (الضعف، الضعفين، …الخ) فقط لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (آلعمران: ١٣٠)، فالذي يقول بذلك مخطئ لأن هذه الآية تصف نوعاً معيناً من المعاملات الربوية في الجاهلية كما وضح ذلك المفسرون من أمثال ابن كثير والطبري في تفسير هذه الآية الكريمة. فالتضعيف نوعٌ من أنواع الربا وليس الربا بالتضعيف فقط.
وأما بيع الأجل، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما البيع عن تراض» (رواه أحمد وابن ماجة) فلصاحب السلعة أن يبيعها بالسعر الذي يرضاه، وله أن يمتنع عن بيعها بالسعر الذي لا يرضاه. ولهذا يجوز لصاحب السلعة أن يجعل لسلعته ثمنين، ثمنا حالا، وثمنا مؤجلا أجلا واحدا معينا، أو ثمنا بالتقسيط لعدة آجال. ولذلك يجوز أن يساوم البائع المشتري بأي الثمنين يقبل الشراء، ويجوز أن يساوم المشتري البائع بأي الثمنين يقبل البيع.
وهذه كلها مساومة على الثمن وليست بيعا، فإذا اتفقا على سعر معين وتمّ البيع، فإن ذلك صحيح، لأنه مساومة على البيع وليست بيعا. ولكن عند حلول الأجل وعدم دفع الثمن لا يجوز للبائع أو المشتري أن يزيد على الثمن المُسمى بينهما مقابل زيادة مدة الأجل لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» (رواه أبو داود)، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن للبائع انقص (أوكس) الثمنين، اي الثمن الأصلي وأي زيادة ربا. فبيع الأجل من المعاملات التي أحلها الشرع.
ونحن بوصفنا مسلمين نعيش في نظام رأسمالي ربوي يجب علينا أن نبتعد كل البعد عن أي تعامل ربوي حتى لو كان فيه المكسب المادي الوفير، فرضا الله ورحمته أهم وأوفر. لذلك يجب على المسلم أن يعرف طبيعة التعامل الذي ينوي القيام به وأن يبتعد عن ما هو تعامل ربوي وما يشتبه أنه ربوي لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام ،….» (رواه البخاري).
فمن المعاملات الشائعة اليوم معاملات ربوية كشراء البيوت أو السيارات أو العقارات التجارية بالقروض الربوية من البنوك والمؤسسات المالية وكالسماح بأخذ الفائدة الشهرية على الحساب البنكي والتبرع بها للجمعيات الخيرية أو المؤسسات الإسلامية. فهذه وأمثالها معاملاتٌ ربوية وضوح العين، ولكن نجد من روّج لها وأفتى بحلها بحجة أو بأخرى.
فنجد أنّ من أحل بعض المعاملات الربوية قد اعتمد على مرتكزاتٍ عدة أهمها:
(1) ما نُسب إلى الإمام أبي حنيفة وبعض أهل العلم من جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب، ومن ذلك التعامل بالربا.
(2) قاعدة تنزيل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات: فقال المستدلون بها: «ولما كان المسكن إحدى الحاجات الضرورية التي لابد من توفيرها سواء بالاستئجار أو بالتملك، وكان الاستئجار لا يخلو من عقبات كثيرة، فإن هناك حاجة عامة للمسلمين في بلاد الغرب إلى هذه المعاملة؛ تحقيقًا لمصالح غالبة، ودفعًا لمفاسد راجحة، ولذلك فإنه يصار إلى القول بجواز الاقتراض بالربا لتحقيق هذه المصالح ودفع هذه المفاسد». فما رأي الشرع في اعتماد مثل هذه المرتكزات لتحليل بعض المعاملات الربوية؟