شرح مواد النظام الإجتماعي في الإسلام- ح8
والتي نصها: (تُمنع الخَلوةُ بغير مَحْرَم، ويُمنعُ التبرجُ وكشفُ العورة أمام الأجانب).
منع الشارع في هذه المادة ثلاثة أمور،
أحدها : الخَلوة، وهي أن يجتمع الرجل والمرأة في مكان لا يمكن لأحد من الدخول عليه إلا بإذنهما،كاجتماعهما في بيت، أو في خلاء بعيد عن الناس والطريق المطروق، وقد قيل أيضا في الخلوة أنها اجتماع بين إثنين على انفراد يأمنان فيه وجودَ غيرهما معهما.
وهذه الخَلوة هي الفساد بعينه، ولذلك منع الإسلام منعا باتا كل خَلوة بين رجل وامرأة غير مَحْرَمَين، مهما كان هذان الشخصان، ومهما كانت هذه الخلوة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو مَحْرمٍ منهما، فإن ثالثهما الشيطان) أخرجه مسلم. وقال: (لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان).
وبمنع الخَلوة ، اتخذ الشرع الوقاية بين الرجل والمرأة ،لأن واقعها في المرأة الأجنبية لا يَرى الرجل منها إلا أنوثتها، ولا ترى المرأة من الرجل إلا ذكورته، فبمنع الخَلوة، تُحسم أسباب الفساد التي تؤدي الى الزنا، فيفسد المجتمع وتضيع الأنساب.
وثانيها: مَنْع التبرج، والتبرج في اللغة هو إبداء الزينة، قال في القاموس المحيط (وتبرجت أظهرت زينتها للرجال)، وهذا أيضا هو المعنى الشرعي لكلمة تبرج، وهو غير التزين، لأن التزين شيءٌ والتبرج شيء آخر، فقد تكون متزينة ولا تكون متبرجة إلا إذا كانت زينتُها لافتةً للنظر، فمنْعُ التبرج يعني منْعُ التزين الذي يلفت نظر الرجال للمرأة بسببه، لأن التبرجَ هو إظهار الزينة والمحاسن للرجال الأجانب، يقال : تبرجت المرأة، يعني أظهرت زينتها ومحاسنها للأجانب، ويؤيد هذا استقراءُ النصوص المتعلقة بالتبرج، فإنها تمنع إبداءَ المحاسن، وإبداءَ الزينة، ولا يفهم منها منع الزينة مطلقا، فقوله تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم مايُخفين من زينتهن)، واضح فيه أنه عن إبداء الزينة،إذ قال: (ليعلم ما يخفين من زينتهن) .
وعن ابي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيُما امرأة إستعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية) أي كالزانية، فهذا كذلك نهي عن عمل من أعمال التبرج، وواضح فيه في قوله: (استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها) أي أنه نهى عن إبداء الزينة، أي عن الأستعطار ليجدوا الرجال من ريحها. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، نساء كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مميلات، على رؤوسهن أمثال أسنمة البخت المائلة، لا يرين الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)، فهذا الحديث أيضا نهيٌ عن عمل من أعمال التبرج. وواضح في قوله: (كاسيات عاريات) يعني إبداء المحاسن، وفي قوله: (مائلاتٌ مميلات) أي قيامهن بحركات تَلفت نظر الرجال، وفي قوله: (على رؤوسهن أمثال أسنمة البخت المائلة) يعني إظهارهن لزينة شعورهن، أي يُكرمن شعورهن ويعظمنها بلف عِمامة أو عصبة أو نحوها حتى تصير كسنام الناقة، والبخت : إلابل الخُراسانية، أي يصففن شعورهن على شكل سنام إلابل الخرسانية . وهذا واضح فيه أنه نهي عن إبداء الزينة للرجال. وهو يُأَيد معنى التبرج لغة بأنه إبداء الزينة، وبأنه غيرُ التزين، فالتزين غير ممنوع إلا إذا كان تبرجا، يعني لإثارة ميل الرجال ، فالتبرج بمدلوله اللغوي ومدلول الأحاديث التي نهت عن أي عمل من أعماله، هو الممنوع شرعا .
وثالثها: كشفُ العورة أمام الأجانب، فيجب على المرأة سترُ جميع بدنها ما عدا وجهَهَا وكفيها، والدليل على ذلك قوله تعالى : (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال أبن عباس: الوجه والكفان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا عركت المرأة لم يجز لها أن تُظهر إلا وجهها ، وإلا ما دون هذا، وقبض على ذراع نفسه بين قبضته وبين الكف مثلَ قبضة أخرى) . فجميع بدن المرأة عورة ما عدا وجهها وكفيها، فيجب عليها سترُ ذلك. والمرأة حين تلبَس اللباس المحتشم الكامل، وتضرب بخمارها على جيبها فتلوي غطاء رأسها على عنقها وصدرها، وحين تُدني عليها جلبابَها فترخي ملاءتها أو ملحفتها إلى أسفلَ كي تستر جميع جسمها حتى قدميها، تكون قد لبست اللباسَ الكامل، واحتاطت في لبسها وظهرت حشمتُها ، وبهذا اللباس الكامل يمكنها أن تنزل الى الحياة العامة لتباشر أعمالَها فيها وهي في منتهى الحشمة والوَقار، مما يحول بينها وبين نظرات الرجال المريبة ممن لا يتقون الله.
وعلى المرأة أن تستر بدنها بثوب لا يصفه، لقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهداه قُبطية، مالك لا تلبس القُبطية؟ فقال زيد: يا رسول الله، كسوتها امرأتي، فقال: (مُرها أن تضع تحتها غِلالةً فإني أخاف أن تصف حجم عظامها)، فالمراد من هذا الحديث هو سَتر بشَرتها، لا ستر شكل الأعضاء، لأنه عليه السلام، أمره أن تضع تحتها غِلالة، والغلالة في اللغة هي ما يُلبس تحت الثوب كما ورد في القاموس المحيط، وقد ذهب الى ذلك الشوكاني في نيل الأوطار ،وكذلك ما ذهب اليه ابن قدامة في المغني فقد قال: (والواجب السترُ بما يستر لون البشرة . فإن كان خفيفا يُبينُ لون الجلد من ورائه، فيُعلم بياضه أو حمرته، لم تجز فيه الصلاة لأن الستر لا يحصل بذلك).
وإلى حلقة قادمة ومادة أخرى من مواد النظام الاجتماعي في الإسلام نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو الصادق