نفائس الثمرات-مراتب الهداية
أن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملا وقبل أوامره وصدق بأخباره ، كان ذلك لهداية أخرى تحصل له على التفصيل . فإن الهداية لا نهاية لها ولو بلغ العبد فيها ما بلغ . ففوق هدايته هداية أخرى وفوق تلك الهداية هداية أخرى إلى غير غاية . فكلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى ، فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى ، وكلما فوَّت حظا من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه ، فكلما اتقى زاد هداه ، وكلما اهتدى زادت تقواه . قال تعالى : « قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ » وقال تعالى: « اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ».وقال تعالى : « سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى » ، وقال : « وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ »،وقال:« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ »
فهداهم أولا للإيمان ، فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية، ونظير هذا قوله تعالى « وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى » ، وقوله تعالى : « يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً » ، ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل والنصر والعز الذي يتمكنون به من إقامة الحق وكسر الباطل ، فسر القرآن بهذا وبهذا . وقال تعالى : « إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ » وقال : « إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ »
كتاب الفوائد لابن القيم