الربا والضرورات – ج2
توقفنا في الحلقة السابقة عند سؤال: فما رأي الشرع في اعتماد مثل هذه المرتكزات لتحليل بعض المعاملات الربوية؟
(1) مذهب الأحناف من جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب، ومن ذلك التعامل بالربا. المستدِلون به لم يناقشوا مذهب الأحناف في هذه المسألة من حيث المبدأ: قوة أو ضعفاً، صواباً أو خطأً، فمذهب الأحناف في هذه المسألة معارض لما ذهب إليه الجمهور من القول بأن حرمة الربا لا تتغير بتغير المكان والزمان، فالربا حرام، فلا يحل للمسلم أن يعامل الحربيين بالربا أخذاً أو إعطاءً، فالنصوص الواردة في تحريم الربا لم تقيده بمكان دون مكان، ولا بفريق من الناس دون فريق فحرمة الربا ثابتة في حق الكفار كما هي ثابتة في حق المسلمين قال تعالى: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ»
(النساء: 161).
فمتى كانت المحرمات أمراً خاصّاً بالمسلمين في ديار الإسلام، فإذا خرجوا منها استحلوا محارم الله! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اتق الله حيثما كنت»؟! (رواه أحمد).
وكذلك فإن أدلة الأحناف في هذه المسألة ضعيفة، فعلى سبيل المثال حديث «لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب»، الذي يُعَدُّ عُمدة أدلتهم في هذا المقام رَدَّه أهل العلم بالحديث والفقه معاً، فقد قال فيه النووي: «مرسل ضعيف فلا حجة فيه، ولو صح لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعاً بين الأدلة» (المجموع للنووي: 9/ 392).
فالارتكاز إلى رأي الأحناف في هذه المسالة يفتح الباب على مصراعيه لنَقضِ عُرى المحرماتِ عروةً عروة، فجواز العقود الفاسدة في دار الحرب يعني جواز القمار مع الكفار، وجواز بيع المحرمات إليهم؛ كالخمر والميتة ولحم الخنزير وهذا لم يقل به الأحناف أنفسهم!
(2) قاعدة تنزيل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المحظورات. فالحاجة هي الاعتماد على شيء بعينه لوجود الحياة ابتداءً أو لاستمرارها أو للقيام بوظائف حيوية. فالإنسان يحتاج إلى الخالق لوجوده ابتداءً، وهو يحتاج إلى الهواء والماء والطعام والمسكن لاستمرار حياته، وكذلك يحتاج إلى الطاقة للقيام بوظائفه اليومية كالحركة والعمل ويحتاج إلى وسائل أو أشياء معينة للقيام بهذه الأعمال. فالإنسان يمكن أن يسافر مشياً على قدميه أو راكباً على الخيل أو في السيارة أو في الطائرة أو غيرها، فهو يعتمد على أحد هذه الوسائل للسفر. والحاجة تختلف عن الاضطرار، فالاضطرار هو الاعتماد على وسيلةٍ أو شيءٍ بعينه لإشباعِ حاجةٍ معينةٍ لاستمرار حياته أو للقيام بوظيفة معينة.
فالحاجة إلى الطعام لاستمرار الحياة تختلف عن الاضطرار إلى أكل لحم الخنزير، فالحاجة إلى الطعام يمكن إشباعها بأي نوعٍ من الطعام الذي يُشبع والخنزير أحد هذه الأنواع. لكن الشارع أحلَّ أنواعاً معينةً من الطعام وحرَّم أنواعاً أخرى، فالمُسلم يُشبع حاجة الجوع بطعامٍ أحله الله. وبين الشارع أنه في حالة الجوع الذي يُخشى معه الهلاك وعدم وجود ما أحله الله من الطعام يجوز للمسلم أن يأكل الطعام المحرّم كالخنزير لإشباع هذه الحاجة (وليس أكل أكثر ما يُشبع) خوفاًُ من الهلاك.
فالاضطرار إلى شيء بعينه لا يُعني أنه يجب القيام بهذا الشيء، بل يجب الرجوع إلى الشارع لمعرفة هل أجازه الشارع في حالة الاضطرار أم لم يُجزه، فالشارع أجاز أكل لحم الخنزير في حالة الاضطرار ولم يُجز الفرار من القتال للحفاظ على الحياة، قال تعالى: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»
(الأنفال: ١٦).
فعندما تحدث الفقهاء عن هذه القاعدة لم يتحدثوا في الأعم الأغلب بإباحة محرمات قطعية انعقد الإجماع على حرمتها وبطلان العقد بها، كالزنا وشرب الخمر أو بيعها وأكل لحم الخنزير أو بيعه؛ بل جُل ما ذكروه من تطبيقاتها يتعلق بالعقود المشروعة ابتداء كمشروعية الإجارة والجعالة والسَلَم والحوالة وغيرها (للاستزادة حول هذه القاعدة الشرعية يمكن للقارئ الرجوع إلى كتاب «الأشباه والنظائر» للسيوطي).
ولننظر إلى مسألة شراء البيوت، هل تصل إلى منزلة الضرورة التي قد تؤدي إلى الهلاك بحيث لا يمكن تركها؟! هل شراء البيت بقرض ربوي هو البديل الوحيد لسد حاجة الإيواء في مسكن؟! لماذا لا يكون استجار شقةٍ -لمن لا يملك ثمن البيت كاملاً أو لمن لا يستطيع شراء البيت بيعاً آجلاً- بديلاً آخر؟! فمن يقترض بالربا لشراء بيت يدفع ما لا يقل عن 1200 دولار شهرياً للمُقرِض، فمن يدفع هذا المبلغ يمكنه أن يستأجر شقة بدلاً من شراء بيت بالربا لسد حاجة الإيواء في مسكن. فالمسكن حاجة يجب توفرها ولكن ليس من الضرورات أن يكون هذا المسكن بيت ملك في مكان قريب من العمل أو المسجد، فاستئجار شقةٍ قريبةٍ كانت أم بعيدة يسد هذه الحاجة، فالحاجة هي الى المسكن وليس من الضرورة أن يكون هذا المسكن بيت ملك.
لكن إذا أصبحت المنفعة المادية من امتلاك البيت هي مركز التفكير عند الحاجة إلى مسكن، فإنها ستدفعه إلى الاقتراض الربوي لشراء بيتٍ يبيعه في المستقبل فيكسب منه بعض المال على خلاف استئجار بيت، فالإيجار الذي يدفعه شهرياً لا يكسب منه شيئاً. فإنزال امتلاك البيوت بالقروض الربوية منزلة الضرورة هو اتباع للهوى وليس اتباع للحق وفيه استدراج المسلمين للانصهار في الحياة الغربية وقيمها بحيث لا تصبح تصرفات المسلم في حياته اليومية مرجعها الحلال والحرام بل يصبح مرجعها موافقة النظام المعمول به والسير معه.
فعلينا كمسلمين نؤمن بحرمة الربا أن نبتعد عنه، فمن شدة حرمة الربا قوله تعالى في سورة البقرة : «يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرِّبَوٰاْ إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ (٢٧٨) فَإِن لَّم تَفعَلُواْ فَأذَنُواْ بِحَربٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُءُوسُ أَموَلِكُم لَا تَظلِمُونَ وَلَا تُظلَمُونَ (٢٧٩)»
فالله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين الذين يتعاملوا بالربا أن يتقوه ويتركوا التعامل بالربا، فان لم يفعلوا ذلك ولم يستمعوا لأمر الله ولم يطيعوه فليُعدوا العدة وليتجهزوا لحرب الله ورسوله، فمن عنده القدرة على محاربة الله ورسوله؟! هل الذين يأكلون الربا عن عِلْمٍ عندهم القدرة على محاربة الله ورسوله؟! قال ابن عباس في هذه الآية: «يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب». فإذا تاب المسلم عن الربا فله رأس ماله ولا يجوز له أخذ أي زيادة «فَلَكُم رُءُوسُ أَموَالِكُم».
ومن التجرؤ على حدود الله أن بعضاً من علماء المسلمين أباحوا أخذ الفائدة الشهرية على الحساب البنكي والتبرع بها للجمعيات الخيرية أو المؤسسات الإسلامية أو المدارس لتطهير الأموال. فهذا اعتداءٌ صارخٌ على حدود الله، فأمرُ الله واضح في هذه المسالة، أمَرَ بالتوقف عن التعامل بالربا لحظة معرفة أن التعامل ربوي وأمَرَ بأخذ رأس المال فقط. فالحساب البنكي الذي عليه فائدة هو تعامل ربوي، فكيف يرضى المسلم أن يستمر بالتعامل بالربا وهو يعلم أنه حرام؟! كيف يرضى المسلم أن يستمر بالتعامل بالربا وهو يعلم أن فيه إعلان حربٍ على الله ورسوله؟!
كيف يرضى المسلم أن يستمر بالتعامل بالربا وهو يسمع ويقرأ كلام الله «فَمَن جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلَى ٱللَّهِ وَمَن عَادَ فَأُوْلَـِٰكَ أَصحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُم فيها خَـٰلِدُونَ» (البقرة: ٢٧٥)؟!
كيف يرضى المسلم أن يستمر بالتعامل بالربا وهو يسمع ويقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية»؟! (رواه أحمد)
كيف يرضى المسلم أن يستمر بالتعامل بالربا وهو يسمع ويقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا سبعون حوباً أيسرها أن ينكح الرجل أمه» (رواه ابن ماجه)؟!
ألا يكفي هذا لرَدع النفس والابتعاد عن الربا؟! يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى «يَمحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُربِى ٱلصَّدَقَـٰتِ»: «يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة»، فهذا واقع نعيشه ونشاهده في حياتنا، فكم من مرابٍ مُحِق ماله؟! وكم من مرابٍ حُرِم بركة ماله؟! فكل رباً ممحوق، فالنظام الاقتصادي الرأسمالي الذي بُني على الربا يُمحَق أمام أعيننا، فكم من أسهم الشركات الرأسمالية مُحقت بين ليلة وضحاها؟ وربا المعاملات الربوية الرأسمالية يُمحق: فعائدات البنوك الربوية تُمحق، وأسعار البيوت مُحقت لأنها بالربا.
وفي الختام اعلم أخي المسلم وأختي المسلمة أن تَحَرِّيك للحلال فيه من الخيرات ما الله به عليم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ترك عبد لله أمراً لا يتركه إلاَّ لله إلا عوَّضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه» (ابن عساكر). فيا عباد الله اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا، فالفائز من فرَّ بنفسه من النار يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون. اللّهم أكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك يا غني يا كريم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
بقلم الأستاذ أبي مالك