أمريكا وبريطانيا في مؤتمر لندن: يتنازعان النفوذ والمصالح على أرض اليمن!
دعا رئيس وزراء بريطانيا في 1/1/2010م إلى مؤتمرٍ في لندن لبحث موضوع اليمن بحجة مساعدته في الخروج من أزمته… وقد انعقد المؤتمر مساء هذا اليوم 27/1/2010م، وحضرته 21 دولة، واستمر الاجتماع ساعتين! ثم أصدر قرارات حول دعم اليمن في حربه ضد القاعدة، والدعم التنموي وتنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي والسياسي، والمحادثات مع صندوق النقد الدولي، وإجراء مصالحة شاملة…
إن المتتبع لما جرى ويجري في اليمن يدرك أن هذه القرارات ما هي إلا طلاء يخفي تحته القرارات الحقيقية والمواقف الفاعلة، والدول ذات الحول والطول على أرض اليمن، ومن ثم الغرض من عقد المؤتمر ونتائجه…
إن أمريكا منذ استقرَّ نفوذ الإنجليز في اليمن وحتى اليوم، وبخاصة خلال النظام الحالي، وهي تعمل على زعزعة الوضع القائم، وتطبيق نظريتها القديمة الجديدة بأنها، أي أمريكا، هي وريثة الغرب في مناطق نفوذه، وبالتالي يجب أن يستقر نفوذها هي في اليمن وليس الإمبراطورية العجوز. غير أن النظام اليمني الحالي قد قضى، أو كاد، على الطبقة السياسية الموالية لأمريكا: قَتل من قَتل، واعتَقلَ من اعتَقل، ونفى من نفى، وهَرب من هَرب… فلم يبق لأمريكا من السياسيين القادرين الموالين لها مَن تدعمه ليكون خطاً متقدماً للإمساك بالحكم في اليمن، وإقصاء نفوذ الإنجليز منه، ومن ثم بسط النفوذ الأمريكي عليه. لهذا فإن أعمال أمريكا في اليمن أصبحت تركز على أمرين اثنين: رسائل تهديد للنظام اليمني، ورسائل تدريب للوسط السياسي “الصغير” الموالي لأمريكا.
أما “رسائل التهديد”، فقد وكَّلت بها إيران في دعم الحوثيين، وأصبحوا قنابل موقوتة تنفجر كلما لزم في شمال اليمن وفي خاصرة السعودية… ونقول: رسائل تهديد، لأن الحوثيين لا يتحركون من أجل الاستيلاء على الحكم في اليمن، وإنما لكي يكون لهم وضع قوي فاعل في مناطقهم.
وأما “رسائل التدريب” للوسط السياسي الموالي لأمريكا، فهو التحرك المستمر في الجنوب بغرض فصله، ومن ثم تنطلق أمريكا من فصله عن الشمال، كخطوة أولى، إلى إدخال نفوذها إلى اليمن بكامله في خطوات لاحقة. ونقول: رسائل تدريب، لأن الوسط السياسي الذي يتحرك في الجنوب هو وسط ناشئ يجري إعداده بهذه التحركات… وذلك بعد إقصاء قياداته الفاعلة والقضاء عليها.
وقد نجحت أمريكا في رسائل التهديد والتدريب لأنها استغلت ظلم النظام للجنوب وتهميشه في الحياة السياسية، ثم عدم إتاحة الفرصة للحوثيين لأداء الأحكام الشرعية وفق ما يتبنونه من الأفكار الإسلامية. ولذلك ساهم النظام بعدم تطبيقه الأحكام الشرعية على وجهها الصحيح في اليمن، ساهم في إيجاد مناخٍ ملائمٍ مكَّن أمريكا من استغلاله في إذكاء رسائل التهديد في الشمال، ورسائل التدريب في الجنوب، لدرجةٍ فرضت على النظام الحاكم، بتوجيهٍ من بريطانيا، أن يتخذ إجراءات “اضطرارية” في ناحيتين:
الأولى إغراء أمريكا باتفاقية أمنية معها إرضاء لها لتسكت عن النظام في اليمن، فقد أبرم اليمن مع الولايات المتحدة اتفاقاً أمنياً وعسكرياً بعد جولة من المحادثات بين قيادات عسكرية وأمنية عقدت في صنعاء يومي 10، 11/11/2009م، وتناول هذا الاتفاق مجالات التعاون العسكري والأمني وتبادل المعلومات والخبرات في كلا المجالين. وجاء الإعلان عن هذه الاتفاقية بعد جولة من المباحثات بين رئيس هيئة الأركان العامة للجيش اليمني اللواء الركن أحمد علي الأشول ومدير التخطيط في القيادة المشتركة الأميركية العميد جفري سميث…
والثانية التوجه القتالي نحو القاعدة! ورجالها كانوا معروفين للنظام منذ زمن، وكان النظام صامتاً تجاههم، لا يريد أن يفتح عليه جبهةً جديدةً، تضاف إلى تحرك الحوثيين والجنوبيين، إلى أن رأت بريطانيا غير ذلك، حيث إنها تدرك أن موضوع القاعدة يوجِد حساسية لدى أمريكا، فظهور اليمن في وضع قتالي مع القاعدة سيفرض على أمريكا تأييد اليمن ودعمه، ومن ثم تخفيف الضغط عليه في الشمال والجنوب. وهذا ما كان، فبدأ النظام اليمني بضرب مراكز القاعدة التي يعرفها جيداً، وكان واضحاً أنّ هذا التحرك ضد القاعدة لم يكن صدفة، بل هو كان خارج السياق العام، فدولة مشغولة في أزمتين، الشمال والجنوب، ليس وضعاً عادياً أن تفتح جبهةً ثالثةً لولا انه عملٌ سياسي بثوب عسكري موجهٌ من قِبل بريطانيا ومقصود!
عند هذه النقطة الحرجة وفي هذا الوقت بالذات، دعا رئيس وزراء بريطانيا إلى مؤتمر لندن، وذلك لاستثمار تحرك اليمن تجاه القاعدة دولياً لدعم اليمن والوقوف بجانبه، ومن ثم إحراج أمريكا للوقوف بجانب اليمن وتخفيف الضغط في الشمال والجنوب على النظام. ولم يكن أمام أمريكا إلا الموافقة على المؤتمر، ولكنها أرادته لإيجاد ركائز لها في اليمن لملاحقة القاعدة، وتقوية الوسط السياسي الموالي لها، وبخاصة في الجنوب وإسناده، وفي الوقت نفسه إيجاد حل “محسوب” لحركة الحوثيين، يخفف منها دون أن ينهيها، لكي تبقى قابلة للتحريك من جديد عند اللزوم.
وهكذا كانت أحداث المؤتمر: أمريكا تركز على الدعم العسكري واللوجستي لضرب القاعدة، والضغط على النظام للتفاهم مع التحرك الجنوبي والشمالي، وبريطانيا تركز على الدعم الاقتصادي ووقوف المجتمع الدولي بجانب اليمن ضد تحرك الجنوب والشمال، والنظر إلى موضوع القاعدة في حدود دعم اليمن ضد الحوثيين والجنوبيين! لذلك لم يكن المؤتمر خلال ساعتيه أكثر من مكان يبتسم فيه ممثلو الدول الواحدة والعشرين أمام الكاميرات علناً، ثم تحشد كل من بريطانيا وأمريكا سراً أعوانهما من الدول المجتمعة، وذلك لتصل كل منهما إلى ما تريد على حساب دماء اليمن وأهله!
أيها المسلمون: إلى متى تبقى بلاد المسلمين ميداناً تتصارع فيه الدول الكبرى بأدوات محلية من أبنائها؟ إلى متى تبقى بلاد المسلمين مسرحاً يلعب على “خشبته” الغربُ لامتصاص دمائها ونهب ثرواتها؟ إلى متى يبقى الغرب يشعل فتيل النار في بلاد المسلمين في الوقت الذي يريد وفي المكان الذي يريد؟ إلى متى يبقى الحكام في اليمن، وغير اليمن من بلاد المسلمين، كأدوات الشطرنج يحركها الغرب المستعمر، وهؤلاء الحكام لا يعارضون، بل ولا يتململون! ألم يأن لأهل اليمن أن يدركوا أن النظام بإجراءاته الظالمة يسهِّل للمتصارعين صراعهم على أرض اليمن، لقتل أهله، وتخريب بيوته، ولا يهمه من ذلك إلا البقاء على كرسي الحكم حتى وإن كان هزيلاً معوجاً يوشك على السقوط!
لقد شُرِّد وقُتل وجرح خلال حروب اليمن المنتشرة عشراتُ الآلاف بل المئات…، وأطراف القتال كلها مسلمةٌ تنطق بالشهادتين، أفلا تُدرك أن اقتتال المسلمين أمر كبيرٌ كبير، وأن قَتل المسلم بغير حق أعظم عند الله من هدم الكعبة؟! يقول عبد الله ابن عمر: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَقُولُ «مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا» أخرجه ابن ماجة.
إن أمريكا وبريطانيا يتصارعان على اليمن بأدوات من أهله، وبتسهيلات أمنية ولوجستية من النظام نفسه، وباندفاع أعمى من الانفصاليين في الجنوب ومن الحوثيين في الشمال، وأمثلهم طريقة من يرتكب هذه الموبقات وهو يظن أنه يحسن صنعاً!
أيها المسلمون: إن مصيبتنا هي في اثنتين:
الأولى هم الحكام في بلاد المسلمين الذين لا يرعوون، ولا يتقون الله لا في البلاد ولا في العباد! ولو كانوا يعقلون لعلموا أن الحاكم الغاش لرعيته، الذي لا يرقب فيها إلاً ولا ذمة، لا يدخل الجنة ولا يشتم ريحها، فقد قال عليه السلام «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»أخرجه البخاري، فكيف إذا كان هذا الحاكم مضللاً للناس، يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، و يجعل الخيانة أمانة؟! إنه يكون رويبضة يقود الرعية إلى الهلاك، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».أخرجه أحمد
وأما المصيبة الثانية فهي سكوت الأمة عن الحكام الظلمة، وعدم الإنكار عليهم، وذلك رغم كل ما يصيب الأمة من هوان صنعه الحكام بأيديهم… فقد ضاعت فلسطين، وكشمير، والشيشان، وقبرص، وتيمور الشرقية، وغيرها… ثم السودان تقطعت أوصاله أو كاد، والعراق وأفغانستان وباكستان ومن ورائها اليمن، قد أصبحت ميدان صراع للغرب يصول فيه ويجول، وأدواته حكام المسلمين وأعوانهم… فليس بدعاً إذن أن يُصَبَّ العذاب، ويقع المصاب، ليس فقط على الحاكم، بل والمحكوم كذلك الساكت على ظلم الحاكم، يقول سبحانه وتعالى ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، ويقول عليه السلام «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِهِ» أخرجه أحمد وأبو داود.
أيها المسلمون:لقد انبلج الصبح لذي عينين، فإنه لا يصلح هذا الأمر إلا بما صلح به أوله: خلافة راشدة على منهاج النبوة، تحكم بما أنزل الله وتجاهد في سبيل الله، ويكون الحاكم فيها خليفةً يُقاتل من ورائه ويُتَّقى به، ودرعاً يحمي الرعية ويحوطها بنصحه، وعندها فلن يكون لدى أمريكا وبريطانيا وغيرهما من الدول الكافرة المستعمرة متسعٌ من الوقت لغزو بلادنا وبسط النفوذ عليها، لأن وقتهم سيكون مشغولاً بكامله في حفظ موطئ أقدامهم المنكفئة إلى بلادهم، وذلك “فراراً” من نور الإسلام الذي يكون قريباً من دارهم! ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) .