هل انتشر الإسلام بالسيف؟
«انتشر الإسلام بالسيف» عبارة حاول الغرب – وما يزال- بثها عن انتشار الإسلام بحد السيف. وهي مقولة لا تحمل أيّ براءة من قبل المستشرقين ومن لفَّ لفَّهم، ولا هي محاولة جادة لدراسة سرعة انتشار الإسلام من قبل هؤلاء، بل هي محاولة لتشويه الإسلام وبيان أنه يجبر الناس على الإيمان به بحد السيف. وأن الناس لا يؤمنون بهذا الإسلام طواعية وعن اقتناع، بل عن إكراه وإجبار. ولأن الإناء -كما قيل- بما فيه ينضح، فقد قاس الغرب كيفية انتشار الإسلام على كيفية نشر الغرب لمبدئه وأفكاره بإجبار الناس عليه، فقالوا إن الإسلام قد أجبر الناس على الإيمان به. وكذلك فقد أرادوا من هذه المقولة الطعن في الجهاد وتمييع معناه وصرف الناس عن المعنى الصحيح للجهاد، وهو أحد الأحكام التي يهاجمون الإسلام فيها لتحريفه. وسنحاول في هذا المقال الرد على هذه الشبهة الهابطة والتي لا تنم إلا عن حقد على الإسلام وأهله.
إنّ هذه المقولة قد تعني أحد أمرين: أولهما أن طريقة نشر الإسلام وحمله للناس يكون عن طريق السيف، أي أن طريقة حمل الإسلام الشرعية خارج دار الإسلام ومناطق حكم الإسلام تكون عن طريق الجهاد، وهذا صحيح. والأدلة الشرعية متوافرة في ذلك، نذكر منها قوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (البقرة: 193). وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في العلاقة بين الجهاد والإسلام «الْجِهَادُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ» مسند أحمد. وقد اهتم الإسلام بإيجاد الجيش القوي القادر على القيام بتبعات الجهاد، يقول تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» (الأنفال: 60). وبالتالي فإن نشر الإسلام وحمله لغير المسلمين يكون عن طريق الجهاد، أي عن طريق إزالة الحواجز المادية من أمام غير المسلمين لكي يتعرفوا على الإسلام. وهل هناك طريقة أفضل من تطبيق الإسلام على الناس حتى يتعرفوا عليه عقيدة ونظاماً؟! وهل هناك طريقة أفضل لمعاينة الإسلام عملياً من تطبيقه على الناس؟! إنَّ فرض الجهاد لا يتوقف إلى قيام الساعة، ويأثم المسلمون بتوقفه لأن حمل الإسلام لغير المسلمين فرض لا يتوقف، فقد بوب البخاري في صحيحه فقال: باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر، أورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم». وهذا الأمر ليس هو محل البحث، فهم لم يقصدوا هذا المعنى مطلقاً.
أما الأمر الثاني فهو أنَّ الإسلام قد أجبر الناس على الإيمان به بحد السيف دون قناعة، وهذا ادعاء باطل لا سند له من عدة وجوه:
- إنَّ الإسلام قد بين أحكام الجهاد وفصَّلها، وأولها أنه لا يجوز المبادأة بقتال الناس قبل أن يُدعوا إلى الإسلام، ويُعرض عليهم عرضاً لافتا للنظر، فإن آمنوا فقد أصبحوا جزءً من المسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وإن أبوا فتُعرض الجزية عليهم؛ وهي مبلغ قليل من المال يفرض على من لا يؤمن مقابل حمايته والدفاع عنه ويعتبر جزءً من رعايا الدولة الإسلامية. وإن أبوا الجزية فالقتال قائم حتى النصر وإزالة الحواجز المادية ومن ثم تطبيق الإسلام عليهم.
- لقد حرَّم الإسلام قتال غير المقاتلين. ومُنِع الجيش الإسلامي من قتل المرأة أو الطفل أو الشيخ، وحرَّم الإسلام قصف المدن والجسور والملاجئ، إلا إذا كانت معاملة بالمثل كأن ابتدأ الكفار بفعل ذلك. ولم يُعرف عن الجيش الإسلامي ولم يذكر عنه ولو حادثة واحدة أن مارس حرب إبادة أو تطهير. فليست الغاية من الجهاد إفناء الناس أو قتلهم، بل الغاية واضحة وهي حمل الإسلام إلى الناس. فهل سيكون هناك أيُّ معنى لحمل الإسلام إلى موتى وقتلى؟! إن الجيش الإسلامي هو الوحيد الذي لم يمارس قتلاً بلا تمييز أو قصفٍ عشوائيٍ أو إهلاكٍ للحرث والنسل كما فعل الغرب ولا يزال في أي حرب يخوضها.
- إن الناظر في سرعة هذا الفتح للبلاد الواسعة يلاحظ شيئاً مهمًّا تجدر الإشارة إليه. فقد خرج المسلمون من الجزيرة العربية في أعداد قليلة مقارنة مع أعدائهم من الفرس والروم مثلاً. ولكن الملاحظ أن أعداد هذا الجيش كانت تزداد وهذه الزيادة كانت نتيجة لإيمان أهل البلد المفتوح بالإسلام في فترة وجيزة ثم انضمامهم للجيش الإسلامي وحملهم الإسلام لمن جاورهم من البلاد وهكذا. ولو أجبر الجيش الإسلامي الناس على الإيمان بالإسلام والسير معه دون اقتناع، لوجد الجيش الإسلامي نفسه بعد فترة قصيرة وسط عدد كبير من أعدائه ولربما قضي عليه، كما حصل مع الجيوش الأخرى التي أجبرت الناس على السير معها عبر التاريخ وكان نصيبها الفشل والهزيمة بعد فترة كما حصل مع الفرس والروم وكما حصل مع أوروبا. ولكن هذا الأمر لم يحصل مطلقاً مع الجيش الإسلامي الذي كانت أعداده وقوته تزداد، وهذا راجع إلى الإيمان الحقيقي والاقتناع التام بالإسلام من قبل أهل البلاد المفتوحة.
- لم يقم الجيش الإسلامي باستعمار البلاد المفتوحة وسرقة خيراتها واستعباد شعوبها كما فعلت أوروبا، فهناك فرق شاسع بين الفتح والاستعمار. فالاستعمار يباعد بين الغالب والمغلوب، بينما الفتح الإسلامي يجعل المغلوب جزءً من رعايا الدولة لهم كامل الحقوق والواجبات، وليسوا مواطنين من الدرجة الثانية. وهذا ما جعل الناس تلمس عدل الإسلام ورحمته وصلاحيته، فآمنوا به وتمسكوا به.
- لم تُروَ ولا حادثة واحدة أجبر الإسلام فيها أحداً من الناس على الإيمان به. فالله عز وجل يقول: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة: 256). وقد مارس المسلمون هذا عملياً عبر التاريخ الإسلامي. فلأهل البلد أن يبقوا على دينهم – وهذا ما حصل في فترات وأماكن مختلفة- ولهم أن يؤمنوا بالإسلام دون إكراه أو إجبار. وليست هناك محاكم تفتيش وقتل للناس حسب أديانهم كما حصل مع المسلمين في الأندلس وتحت مظلة الحكم الشيوعي، بل إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي لم يقتل أهل الأديان الأخرى وجعلهم مواطنين يُحافظ عليهم.
- لقد تمسَّك أهل البلاد المفتوحة بالإسلام أيَّما تمسُّك. فلم يُروَ أن أهل بلد آمنوا بالإسلام ارتدوا عنه عند زوال الحكم الإسلامي عنهم، بل إنه حتى بعد غياب شمس الجيش الإسلامي بغياب دولة الخلافة، لم يترك الناس هذا الدين، بل تمسكوا به وحافظوا عليه. وما تعرض له المسلمون في الشيشان والبوسنة وألبانيا، وما يتعرَّض له أهل تركستان الشرقية في الصين عنا ببعيد. فلو كان أحدٌ أُجبر على هذا الدين لتركه، ولكن العكس هو المشاهد والمحسوس، فالإصرار على الإسلام هو الموجود رغم التعذيب والقتل والتشريد.
وفي الختام، فإن الإسلام لم يجبر أحداً على الدخول فيه، ولم يستخدم السيف أداة للإرهاب كما تفعل دول اليوم، ولم يجبر الناس على الإيمان به، بل إن السيف كان أداة لإزالة الحواجز المادية لتمكين الناس من التعرف على الإسلام ومُعاينته، فإن اقتنعوا به آمنوا وإلا بقوا على دينهم كما حصل مع اليهود والنصارى الذين عاشوا تحت ظل الإسلام دون خوف من ظلم أو اضطهاد، بل إن اليهود هربوا من الأندلس نتيجة لظلم النصارى واختاروا العيش تحت ظل الإسلام في بلاد المغرب. بل إن الغريب أن تجد الغالب يؤمن بدين المغلوب وذلك كما حصل مع المغول حين هزموا المسلمين ثم آمنوا بالإسلام. والغريب أن تجد الناس ما زالت تؤمن بالإسلام -وهو في أضعف حالاته اليوم- وبأعداد كبيرة. ولكن هذه الغرابة تزول عندما نتذكر أن هذا الإسلام أنزله الله عز وجل للبشر ليسيروا عليه في حياتهم، فلا غَرْوَ أن يؤمن الناس به لأنه الوحيد الصالح للتطبيق وإيجاد السعادة والطمأنينة لدى الناس جميعاً. لقد امتد الإسلام من الأندلس غرباً وحتى اندونيسيا شرقاً في سرعة وجيزة أذهلت كل دارس لهذا الانتشار السريع، والذي نسأل الله عز وجل أن يعيده واقعاً نعيشه اليوم، فيحمل المسلمون الإسلام إلى الناس كافة حتى لا يوجد بيت مَدرٍ ولا وَبرٍ إلا ويُدخله الله في هذا الدين.
الاستاذ ابو الهيثم