حتمية فشل حكام هذا الزمان – ح1
إن انهيار الدول، أو هدمها ومحوها من الوجود، وشطب اسمها من قائمة الدول، أمر ممكن. إذا ما تراكمت على دولة ما جملة من المشاكل، وظهرت عليها الأعراض التي تنبئ بقرب انهيارها وزوالها. من مثل التخلف الفكري، والانحطاط الخلقي، والفساد السياسي في الحكم والإدارة ورعاية الشؤون، وسوء التصرف في الثروات والخيرات، والفساد في العلاقات، وانعدام الأمن والاستقرار، وتفكك أواصر الوحدة بين أطياف المجتمع، وترادف الأزمات الداخلية والخارجية. فهذه كلها علامات تدل على بداية انهيارها التدريجي إلى أن تسقط وتندثر.
وهكذا هدّمت من قبل دول كبرى وإمبراطوريات عظمى ومماليك عدة، واختفت جميعها من الوجود بعدما كان لها شأن في التاريخ القديم. وحتى دولتنا نحن المسلمون، أي الخلافة العظمى التي كانت في القرن الماضي بأيدي العثمانيين، قد سقطت هي الأخرى واختفت من الساحة الدولية. لما وصل بها الوهن والضعف والتخلف الفكري والسياسي إلى درجة التآكل الذاتي والانهيار التدريجي، الذي أدى بها في النهاية إلى السقوط والاندثار، وشطب اسمها من قائمة الدول. وتلك هي سنة الله في الحياة مصداقا لقوله تعالى : ( وَتِلكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ ٱلنَّاسِ ) [آل عمران: 140]. وقوله : ( قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلمُلكِ تُؤتِى ٱلمُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ ٱلمُلكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ ٱلخَيرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].
فانهيار الدول إذًا أمر ممكن، إذا ما كانت الظروف والأحوال التي تمر بها الدولة تنبئ بذلك كما أسلفنا. ولكن انهيار المبادئ، وهدم العقائد والأفكار. فأمر آخر يختلف عن هدم الدول وانهيارها. ولذا يجب التفريق بين الأمرين. أي بين الأمور التي لها علاقة بمسألة انهيار الدول وزوالها. وبين الأمور الأخرى التي لها علاقة بمسألة انهيار المبادئ وهدمها. بحيث يوجه النظر إلى المبدإ بمعزل عن الدولة التي تطبقه. سواء أكانت هذه الدولة في أوج قوتها وعطاءها، أم في قمة ضعفها وسقمها.
وتوجيه النظر للمبادئ يعني دراستها دراسة مستفيضة. وفحصها فحصا دقيقا. لمعرفة الأسس التي تقوم عليها، والفروع المنبثقة عنها، وكل ما بني عليها. أي بحث العقائد والأفكار والمعالجات. فإن كان المبدأ، بفلسفته وعقيدته وأفكاره من وضع البشر، أي من وضع هذا الإنسان المحدود عقلا وطاقة، فإنه بلا شك يكون مبدءا فاسدا. ويحمل في أحشاءه الدلائل على حتمية انهياره وزواله. وهذا الانهيار إما أن يكون ذاتيا، بحكم ضعف الدرع الذي يحميه من مطارق الواقع وتأثيراته عليه، وبسبب تراجعه أمام تطورات الحياة، لعجزه على الركض مع الزمن. إلى أن يصير غير صالح للتطبيق. وإما أن يكون بدفعة من الخصم المنافس له وقت تمايله وتعثره، جراء ثقل العبء المرهق لِكَمِّ المشاكل التي لم يجد لها حلا نهائيا.
ولقد عشنا وشاهدنا الانهيار الذاتي للمبدإ الشيوعي. واندحاره أمام المبدإ الرأسمالي، بالرغم من قوة الدولة التي كانت تطبقه. فالاتحاد السوفيتي كان فيما مضى، القوة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وكان بفلسفته وإيديولوجيته المنافس الأول للرأسمالية الغربية. ولكن رغم قوة هذه الدولة فإن المبدأ الشيوعي قد انهار وانهارت معه أحلام أتباعه.
وأما المبدأ الرأسمالي، وهو كذلك من وضع البشر، فإنه يحمل في أحشاءه من الفساد في العقائد والأفكار والمعالجات ما يخلخل أركان الدول القائمة عليه. وهاهي الدول الرأسمالية بالرغم من قوتها وتحكمها في مصير العالم، إلا أن الأزمات التي تعصف بها من حين لأخر جعلتها تترنح مثل السكران، وتتمايل على شفا قبر التاريخ. فلو قام في وجهها اليوم الخصم الذي تهابه، ألا وهو الإسلام، لدفع بها إلى الهاوية لتنهار وينتهي دورها في الحياة.
هذا فيما يتعلق بالمبادئ الوضعية. أما إذا كان المبدأ من وحي السماء، أي من عند الخالق الذي خلق الكون والإنسان والحياة. فإنه يكون مبدءا صحيحا وصالحا للحياة البشرية. لكونه لا يتناقض مع حقائق الحياة، ولا مع فطرة الإنسان. ومثل هذا المبدإ لا يمكن أن يكون عرضة لما تعرضت له المبادئ الوضعية الأخرى من مراجعات واستدراكات، لتناقضها مع فطرة الإنسان، ولتصادمها مع الواقع. وشتان بين مبدإ تكفل برسم خطوطه ووضع معالمه رب السماوات والأرض علام الغيوب. ومبدإ آخر أنشأه الإنسان المحدود الذي لا يدري ماذا تخفي له الأيام.
ونفهم مما تقدم أن الشيوعية كمبدإ ودولة، والرأسمالية كمبدإ ودولة، كلاهما من وضع البشر، فإذا ما سقطت الدولة سقط معها المبدأ، وإذا ما سقط المبدأ سقطت معه الدولة. وأما الإسلام فإن أمره يختلف عنهما. لأن المبدأ الإسلامي، كما بينا هو من وحي الخالق، فهو في ذاته مبدأ رباني، من المستحيل أن يؤثر فيه الواقع، أو يتجاوزه الزمن، أو يتغلب عليه فكر الإنسان. وأما الدولة في الإسلام فهي دولة بشرية، فإذا ما سقطت هذه الدولة وانهارت، فإن ذلك لا يعني أن المبدأ الإسلامي قد انهار وسقط معها وعاد غير صالح للتطبيق، وغير نافع للبشرية.
وعليه فإن الدولة التي كانت تطبق هذا المبدأ شكليا في آخر عهدها ثم انهارت في القرن الماضي، كانت دولة بشرية. قد طرأ عليها الضعف، وأصابها التخلف الفكري والسياسي، وقلّت فيها القدرات العقلية والعلمية، ففسد حينها فهمها للمبدإ فأساءت تطبيقه. أي لما فسد فهمها للمبدإ فسدت فيها الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. فكان من الطبيعي أن تنهار وتسقط وتمحى من الوجود.
أما المبدأ الإسلامي في حد ذاته فلم يمح من الوجود، بل لازال محفوظا كما نزل به الوحي. لم يتغير ولم يطرأ عليه الضعف والعجز، ولم يتجاوزه الزمن. وما دام هذا المبدأ موجودا ومحفوظا، فإن رجوعه للحياة من جديد أمر متوقع إذا ما وجد من يفهمه حق الفهم ويحمله حق الحمل، ويعمل على عودته إلى معترك الحياة من بعد هذا الغياب، ليصير المبدأ العالمي الوحيد الذي تحيا به البشرية. فالمطلوب منا اليوم لنصرة هذا المبدأ، والتمكين له في الأرض، ببناء الدولة التي ستتكفل بتطبيقه، هو العمل على مزج الطاقة المبدئية بالطاقة البشرية.
والطاقة المبدئية تكمن في الفكرة الصالحة للتطبيق، وفي الطريقة التي تبين الكيفية العملية لتنفيذها. وأما الطاقة البشرية فهي تكمن في العقلية الواعية والراقية، التي تفهم الفكرة والطريقة. وتكمن كذلك في النفسية التواقة لرضوان الله، التي تضحي بحياتها من أجل تنفيذ أمر الله، وتكمن أيضا في الإرادة الصلبة، التي تسعى بهذا المبدإ سعيا حثيثا نحو بناء الكيان الذي يتولى تنفيذه، أي الدولة. فإذا ما مزجت هذه العقلية الواعية الفاهمة للمبدإ كفكرة وطريقة، وتشبعت النفسية بمفهوم التضحية في سبيل تنفيذ أمر الله، ووجدت الإرادة التي لا تكسر في سبيل السعي لتطبيقه. فإن هذا المزج بين الطاقة المبدئية، والطاقة البشرية. سيحدث لا محالة انقلابا هائلا وجوهريا في حياة البشرية. أي لو فهم المسلمون اليوم إسلامهم فهما دقيقا وصحيحا، والتحموا به التحاما متينا، وحملوه إلى الأمة حملا فكريا وسياسيا، لرأيت الإسلام يمشي بين الناس. وبتعبير آخر لو أخرجنا هذا المبدأ العظيم من بطون الكتب، والتزمنا بكل ما جاء فيه التزاما فعليا. لرأيت أثر حرارته في المسلمين. ولرأيت النقلة النوعية التي سيحدثها فيهم. ولرأيت الدفع المدفعي الذي سيحدثه في مسيرة التغيير الشامل والكامل. أما إذا غفل المسلمون عن هذا الإسلام العظيم ولم يلتحموا به. وعاشوا في حالة انفصال مع مبدئهم. فإن هذا المبدأ سيبقى على رفوف المكتبات مخزونا في بطون الكتب، وسيبقى هذا المليار والنصف من المسلمين غثاءًا كغثاء السيل، لا وزن لهم بين الأمم. ولهذا نشدد على مزج الطاقة الكامنة في الإسلام بالطاقة الكامنة في المسلمين، ونحذر من انفصال هاتين الطاقتين عن بعضهما البعض، وإهمال المسلمين لإسلامهم والتفريط فيه.
وها قد أدرك المسلمون اليوم ثلاثة حقائق.
أدركوا أن دينهم ليس دينا كهنوتيا يلزمهم ببعض العبادات ونحوها من مثل الشعائر والطقوس. وإنما هو دين شامل وكامل يتضمن العبادات كما يتضمن الحلول والمعالجات لمشاكل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فهو إذا دين يغطي كل مناحي الحياة. ويعالج كل المشاكل التي تطرأ على الإنسان. بالإضافة إلى الطريقة العملية التي تبين كيف يتم تنفيذ هذه المعالجات، وكيف يتم الحفاظ على عقيدة المسلمين، وكيف يحمل المسلمون هذا الإسلام إلى العالم. فهو شامل وكامل بمعنى الكلمة.
وأدركوا كذلك أن الدول القائمة في عالمهم الإسلامي إنما هي دول لم تقم على أساس المبدإ الإسلامي. ولا تحمل هذا المبدأ إلى العالم. بل هي دول صنعها وأقامها المستعمر الكافر، لتطبق بالوكالة عنه النظام الرأسمالي العلماني. ولتحكم المسلمين بالدساتير والقوانين الغربية. فهي إذا دول هزيلة لا وزن لها في المجموعة الدولية. وفوق ذلك كله هي دول كرتونية يحميها الغرب الكافر من الوقوع والسقوط، ويدافع عنها لكي لا يخرج الحكم من أيديهم ليتحول إلى أيدي المسلمين.
وأدركوا بعد ذلك أن هدم هذه الدول الهزيلة ومحوها من الوجود. والإطاحة بهذه الأنظمة العميلة. وقلع حكام السوء من كراسيهم. وإلغاء العمل بالدساتير والقوانين الوضعية. وإزالة الحدود التي رسمها المستعمر الكافر. وتمزيق خرق العار رمز التجزئة والانفصال. لا يتم بالشجب والاستنكار والتذمر، والتوسل إلى الخالق لكي يمحوهم من وجه الأرض. ولا يتم كذلك بالجهود الفردية. ولا ببعض الإصلاحات الجزئية. وإنما يتم بالجهد الجماعي، وبعمل مرتب، وبخطة محكمة للقضاء على هذه الكيانات العميلة. أي بتشكيل الأحزاب والجماعات لتقوم بهذا العمل الجبار.
وهكذا تشكلت الجماعات والأحزاب، وانطلقت تعمل بين المسلمين ومعهم، إلى أن حركت العالم الإسلامي وأخرجته من جموده وتقوقعه على نفسه، إلى الظهور ورفع الرأس تدريجيا. وهكذا بفضل الله أولا ثم بفضل الجهود الجبارة التي بذلتها هذه الأحزاب والجماعات، خرج الفكر الإسلامي من بطون الكتب وأخذ مكانه بين المسلمين. فحملوه حملا ثوريا، خلخلوا به الأفكار الدخيلة. حتى ما أبقوا للعلمانية ولا للمادية الإلحادية مكانا شاغرا ترتع فيه كما تشاء، أو تلعب فيه بعقول المسلمين، كما كان الحال فيما قبل الصحوة الإسلامية. حتى صار صوت الإسلام في هذه الأيام الصوت الذي يحجب كل الأصوات التي لازالت تروج لأفكار كسد سوقها. وعاد الحديث الأول الذي يشد الرأي العام، المحلي والعالمي، والأوسع انتشارا إعلاميا، هو الحديث عن القضية الإسلامية، وإمكانية عودة الإسلام إلى حيز التنفيذ. أي إمكانية عودة الدولة الإسلامية.
وبما أن هذه الحقائق الثلاث أصبحت مدركة، والوعي الصحيح على القضية المصيرية للأمة قد وجد. والعمل الجدي لاستئناف الحياة الإسلامية قد أخذ يكتسح العالم الإسلامي، فإن فشل الأنظمة الحالية في طمس نور الإسلام، وثني العاملين بالقمع والترهيب عن العمل لإقامة الخلافة والحكم بالإسلام، بات حتميا. والدلائل على ذلك نسوقها فيما يلي.
كتبه : خالد إبراهيم العمراوي.
في يوم الجمعة بتاريخ : 29 محرم 1431 هـ
الموافق : 15 جانفي 2010 م