في السماء رزقكم وما توعدون
كثيراً ما يتداول الناس ألفاظ الرزق على ألسنتهم، فتسمعهم يقولون “الرزق على الله” و”الله هو الرزّاق” والأرزاق على الخلاّق” وبعضها صار أمثلة وأشعاراً دارجة على الألسن من مثل قولهم ” لا تكن للعيشِ محرومَ الفؤاد إنما الرزقُ على ربِّ العبادِ” وغيرها من الألفاظ التي صارت أشبه ما تكون بالأمثلة الشعبية والعادات اللغوية أكثر منها مفهوما عقدياً مرتبطاً بالعقيدة الإسلامية.
وبالرغم من أن البعض يذكر هذه الأقوال بل وحتى الآيات المتعلقة بالرزق كقوله تعالى “وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ” (الذاريات22) وقوله “يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حساب” (ال عمران37 ) إلا أن هذه الأقوال لا تتعدى كونها ألفاظاً أو أمثلة وعادات تداولتها الألسن لكنها لا تلامس شغاف القلب ولا هي صادرة عن إيمان يقيني بمعنى الرزق وأن الله وحده هو الرزّاق العليم.
فتجد من الناس من يتلفظ بهذه الألفاظ وهو في نفس الوقت يتاجر بالحرام، فيبيع الخمر أو الخنزير أو غيرها مما حرم الله، وإن سألته لماذا لا تدع تجارة الحرام وتبحث عن الحلال، يجيب أنه لا يجد مصدراً آخر للرزق، أو يقول “أدعو الله أن يهدينا”. وتجد البعض الآخر من الناس يتعامل بالربا في معاملاته التجارية، أو يتاجر بالأسهم أو اليانصيب أوغيرها، وإذا سئل عن معنى إيمانه بالرزق أجاب “إن الله هو الرزاق”. وصنف آخر من الناس يتاجر بدينه إرضاءً لحاكم ظالم أو حفاظاً على وظيفته فيُحلُّ ما حرّم الله ويحرم ما أحلّ الله سبحانه إرضاءً لذوي السلطان وهو على علم بما يقول، وإذا ما سُئل عن إيمانه بالرزق، أمطرك بالآيات مطراً، وساق إليك الأحاديث تترى وهي لا تكاد تجاوز حلقومه.
إن آيات الرزق تكررت في كثير من المواضع في القرآن، فجاءت دلالتها قطعية لا ظنية، لا تحتمل تأويلاً ولا تفسيراً بأن الله سبحانه هو الرزاق وحده، ففي سورة الروم يقول سبحانه: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ” ففي هذه الآية قد قرَنَ سبحانه الخلقَ والموتَ والحياةَ والرزق معاً حتى لا يتبادر إلى ذهن البشر أي شك بأن هذه جميعاً بيده وحده، فكما أن الذي يخلقُ هو الله، والذي يُحيي هو الله، والذي يميت هو الله، كذلك الذي يرزق هو الله سبحانه، فمن من البشر يدعي أنه يستطيع فعل ذلك؟؟ كذلك في سورة الذاريات يقول سبحانه :” وفي السماءِ رزقُكم ومَا تُوعدون” ويقول في سورة الإسراء “وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم” كذلك في سورة الأنعام “وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ” وفي سورة النحل “وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ” فهذه وغيرها من الآيات يذكرها الحق مرة تلو المرة ليؤكد للناس أنه وحده الرازق وليس الحاكم، وليس مدير الشركة، ولا رب العمل، ولا رب الأسرة، ولا الإجتهاد والجد في العمل أو التجارة، فهذه كلها ليس لها علاقة بأسباب الرزق من قريب أو بعيد، فالحاكم قد يتوفاه الله، ومدير الشركة قد يخسر وظيفته، ورب العمل قد يخسر تجارته، ورب الأسرة يتوفاه الله، فمن يرزق بعد هؤلاء؟ بل من يرزق هؤلاء أنفسهم ؟ إن الذي رزق هؤلاء جميعاً هو رب السماوات والأرض، ألم تسمع قول الحق سبحانه يخاطب العقول والقلوب في قوله: ” أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يعدلون” “أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادقين” النمل 64، فأي برهان أعظم من ذلك يريدون؟
ولكن بعد كل هذه الأدلة القطعية، لماذا لا يزال بعض الناس يطلب رزقه عن طريق الحرام؟ ويخشى على رزقه أن ينقطع، فيحجم عن قول الحق خوفاً على رزقه، ويخشى أن يحمل الإسلام كما أمر الله سبحانه خوفاً على رزقه، وإذا دُعي إلى قول الحق نظرَ إليك نظرَ المغشيّ عليهِ من الموت خوفاً على منصِبه، بل إن البعض يُخفي إسلامه في مكان عمله ويتنكر لأهل دينه وربما بعضهم عمل جاسوساً على أهل دينه كل ذلك حرصاً على رزقه، فلماذا هذه السلوكيات الغريبة عند بعض الناس مع أن رزقهم لن ينقص قيد شعرة لأن الله قد تكفل به حتى آخر لحظة في حياتهم، جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن روحَ القُدُسِ نفثَ في رَوعي لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » أخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك .
وللإجابة على تلك التساؤلات لا بد من إدراك مسألة ذات شقين، أولها: الواقع الذي عاشته ولا زالت تعيشه أمةُ الإسلام حتى يومنا هذا، فهذه ليست ظاهرة فردية في أبناء الأمة بل هي ظاهرة عامة أصيب بها أهل الإسلام بعد أن ضعف فهم الأسلام في نفوس أهله، وبعد التلوث الفكري والثقافي الذي أصابهم من جراء الحملات الغربية على الإسلام والتي كانت الغاية منها حرفُ المسلمين عن عقيدتهم وإدخال الثقافة الغربية على أفكار المسلمين ومحاولة دمجها بأفكار الإسلام وإلباس بعضها ثوب الإسلام كمثل القول “إن الديمقراطية من الإسلام” أو “إن الإسلام إشتراكي” وغيرها الكثير، فكان من جرّاءِ ذلك أن تراكم الكثير من الغبار والأتربة على فهم المسلمين للعقيدة الإسلامية، فلم يعد فهمها ساطعاً مشرقاً كما كان أيام الرعيل الأول من أصحاب رسول الله (ص)،
وما زاد الأمر ضغثاً على إبالة، أن المسلمين وقع في قلبهم حبُّ الدنيا، وفقدوا الشوق إلى الجنة والخوف من النار، وبدل أن تكون النظرة إلى الحياة الدنيا أنها طريق إلى الآخرة وأنها دار امتحان وابتلاء، أصبحت متع الحياة الدنيا هي الغاية التي تلهث وراءها النفوس الضعيفة، ولم تعد آيات القرآن العظيم تأخذ بمجامع القلوب فتهزها هزاً، ولم تعد تقشعر لها جلود الذين آمنوا فتُلينَ قلوبَهم لذكر الله، تلك التي لو نزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، يقرأها كثير من الناس فلا تنهمر لها الدموع، ولا ترتجف من هولها القلوب، تذكّرهم ليل نهار بالجنة والنار فلا تجد من مجيب إلا القليل، تكرر عليهم مرات ومرات أن الرازق هو الله، فهو وحده المعطي ووحده المانع، فعلام الخوف؟ ومن يستحق الخوف إلا هو؟ فالأرض جميعاً قبضته سبحانه، والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى، فمن يمنع ما أعطى ومن يعطي ما منع؟!
أما الشق الثاني للمسألة فهي عدم إدراك مفهوم الرزق إدراكاً صحيحاً، ذلك أن موضوع الرزق فيه أمران:
الأول: عقدي، وهو الإيمان بأن الله هو الرازق فعلاً، فهو سبحانه الذي يبسط الرزق ويقدِر، وهذه مسألة عقدية إيمانية، فمن ظنّ أن غير الله يرزقه فقد أشرك مع الله إله آخر، أي من ظن أن الحاكم أو مديره في العمل أو رب العمل هو الذي يرزقه فقد أشرك مع الله إله آخر، لأن الرب معناه الرازق، لذلك كانت العرب أيام الجاهلية تطلق على الذي يطعمهم وصفَ الربّ، فكان أحد سادات قريش -ويدعى عمرو بن لُحَيّ- يُطلق عليه لقب الرَب لأنه كان يطعم الناس، يحضّر لهم الخبز واللحم، وكان يلِتُّ العجين بيديه فسُمّي لذلك اللاتّ، لذلك أقاموا له صنماً سُمي على إسمه وهو (اللات) من أشهر أصنام الجاهلية آنذاك، لذلك أنزل الحق سبحانه تصحيحاً لمفهموم الربوبية عند العرب فقال في سورة قريش ” فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ” أي أن المطعم الرازق ليس هو اللات ولا سادة قريش ولا أبو جهل ولا الوليد بن المغيرة بل رب البيت الذي تعبدون، فالرب ليس الذي يُطعم الطّعام، ويتحكم بأقوات الناس، بل هوربُّ الناسِ جميعاً ورازقهم، ومن ظن غير ذلك فقد أشرك مع الله الربوبية “سبحانه وتعالى عما يشركون” .
والثاني: هو السعي في طلب الرزق، فحكم السعي في الأصل هو الإباحة وقد يكون مندوباً أو فرضاً بحسب حال الساعي، فالذي تجب عليه نفقة أهله ولا يملكها كان السعي في حقه واجب، والذي يسعى للإنفاق في سبيل الله كان حكم السعي في حقه مندوباً. ومن سعى لطلب رزقه بالحلال أخذ رزقه المقسوم له ونال أجراً ورضي الله عنه، ومن سعى لطلب الرزق بالحرام أخد رزقه المقسوم له، وحمل وزراً وغضب الله عليه وهكذا أحكام السعي، ومن أراد التفصيل في ذلك فأدلته مبسوطة في كتب الفقه.
أما نحن اليوم فما أحوجنا أن نتدبر أيات الكتاب الكريم، نفهمها فهما عميقاً كما فهمها الصحابة رضوان الله عليهم، بل نعيش مع آيات الكتاب ليلاً فتُلينُ القلوب، نلتزم بها نهاراً فتحيي النفوس، علّها تحرك فينا الشوق إلى الجنة والخوف من العذاب. أنظر إلى ذلك الأعرابي الذي لقي الأصمعي في البصرة، قال الاصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جَلفٌ جَاف على قعودٍ له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلّم وقال: مِمّن الرجل ؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمعيّ ؟ قلت: نعم.
قال: ومن أين أقبلت ؟ قلت: من موضعٍ يُتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟ قلت: نعم، قال: فاتلُ عليّ منه شيئا، فقرأت (والذاريات ذروا) إلى قوله: (وفي السماء رزقكم) فقال: يا أصمعي حسبك ! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطّعها بجلدها، وقال: أعنِّي على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحِل وولى نحو البادية وهو يقول: (وفي السماء زرقكم وما توعدون) فمقتُّ نفسي ولُمتُها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالاعرابي وهو ناحلٌ مُصفر، فسلّمَ عليّ وأخذ بيدي وقال: أتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت (والذاريات) حتى وصلت إلى قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) فقال الاعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا ؟ قلت: نعم، يقول الله تبارك وتعالى: (فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) قال فصاح الاعرابي وقال: يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حَلَف ! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه. (من تفسير القرطبي).
وهذه الصحابية الجليلة التي انطلق زوجها إلى الجهاد فأراد بعض المنافقين أن يضعف عزيمتها ، ليحملوها على أن تثني زوجها عن الجهاد في سبيل الله ، فأجابتهم جواب المتيقن من إيمانه، قالت : (زوجي عرفته أكالاً ، ولم أعرفه رزاقاً ، فإذا ذهب الأكال بقي الرزاق..!!)، صحابي آخر أراد منافق أن يثنيه عن بذل روحه في سبيل الله ، فقال: (علينا أن نطيعه كما أمرنا ، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا..!!). سبحان الله !! كيف استطاع أولئك النفر أن يفهموا العقيدة هذا الفهم الراقي؟ وأن يدركوا حقيقتها إدراكا لا لُبس فيه، فهل نزل القرآن إليهم وحدهم؟ وهل خاطبهم بلغة لا نفهمها اليوم؟ لا شك أن السر في هذا الإيمان القوي هو دوام الإتصال مع القرآن الكريم، وتأمل آياته الكريمة وربطها بالعقيدة يومياً باستحضار آيات الجنة ونعيمها وآيات النار وجحيمها، ودوام التفكر في خلق الله ومحاولة ربط الأحداث اليومية بالحقائق القرآنية كحقيقة الأجل والمرض والغنى والفقر علنا نرتقي في إيماننا إلى مستوى أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مستوى على بن أبي طالب رضي الله عنه حين يقول: (لو انشقت السموات لكي ارى الجنة رأي العين ما زادني ذلك يقينا على يقيني) أو حين يقول واصفاً الرزق:
عليك بتقوى الله ان كنت غافلا يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري
فكيف تخاف الفقر والله رازقا فقد رزق الطير والحوت في البحرِ
ومن ظن أن الرزق يأتي بقوة ما أكل العصفور شيئا مع النسرِ