انبثاق الفرج من رحم الشدة
إن تصدي الحق ووقوفه أمام الطغيان الباغي ما هو إلا سنة الله على هذه الأرض التي لا تتخلف ولا تتبدل على مدار الزمان .
والناظر للأحداث التي حدثت في الأمم التي خلت من قبلنا والأحداث الواقعة في أيامنا هذه يرى أن الطغيان دائماً يمتاز بقوة الحكم والسلطان بل أن قوته تكون قوة الطاغية المتجبر اليقظ الحذر.
والحق يكون لا حول له ولا قوة ولا ملجأ ولا وقاية ولا حماية إلا الله عز وجل .
ولكن هذه القوة والجبروت والحذر لا تغني للباطل عن شيء بل لا تمكنه من الحق، وكيف يكون ذلك وهو في حراسة القوة الحقيقية، القوة الوحيدة التي بيدها الأمر وتدفع السوء وتعمي العيون بل وتتحدى الباطل تحدياً سافراً.
وتأتي الآيات الأولى في سورة القصص مبينة هذا التحدي ومعلنة انتصار الحق على الباطل مهما علا الباطل وطالت مدته ، تأتي على شكل حلقات لقصة من عدة مشاهد ما أن يسدل الستار عن مشهد حتى يرفع عن مشهد آخر تترابط أحداثها مع بعضها البعض.
قال تعالى : “وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ” أي نريد أن نتفضل وننعم عليهم .
وتلك حكاية مضت …. حكاية فرعون وظلمه وكيف أنه علا في الأرض وتكبر وتجبر فأوقع على الناس أشد صور الاضطهاد والبغي ، على أناس لم يحملوا عقيدته وأنكروا ألوهية فرعون ودانوا للواحد القاهر الجبار .
فهؤلاء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع وتحكمه في عيشهم إلا انه كان يخافهم ويحذرهم فيبث عليهم العيون والأرصاد ويتعقب نسلهم من الذكور فيسلمهم إلى الشَّفَّارِكالجزار.
هؤلاء المستضعفون يريد أن يمنَّ الله عليهم بمهابة من غير تحديد ويجعلهم أئمة وقادة لا عبيداً ولا وتابعين ، وأن يورثهم الأرض المباركة وأن يمكنهم فيها ويجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين، فيحقق الله ما يحذره فرعون وما يتخذ الحيطة دونه وهو لا يشعر .
هكذا كان التصوير القرآني قبل بدء عرض القصة ، والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها وما ستنتهي إليه.
قوة تقف وجهاً لوجه مقابل قوة
قوة فرعون المنتفشة المنتفخة التي تبدو للناس قادرة على الكثير أمام قوة الله الحقيقية القوة الهائلة التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة التي ترهبها الناس وتخافها.
ثم تبدأ القصة ويبدأ التحدي ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، بياناً منه سبحانه أن لا قوة تعلو قوة الحق بيد القادر التي تعمل سافرةً دون ستار.
فيأتِي أمر الله : ” وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ”
مشهد الأم التي تضع أبنها، وهو في حضنها، وفي رعايتها، فإذا خفت عليه وفمه في ثديك وتحت عينيك “فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ”
فيستكمل الخطاب بـ : ” وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ” مطمئناً لها بأن لا تخاف ولا تحزن بل ومبشراً لها أنه سيُردُ إليها بل وإنه سيكون أيضاً من المرسلين .
فيسدل الستار عن هذا المشهد العظيم ليأتي بعده مشهد آخر مشهد الأم الحائرة التي تتلقى الإيحاء المطمئن لها المبشر المثبت المريح فينزل البرد والسلام على قلبها.
فتتتابع المشاهد من مشهد إلى آخر كلها لتحقق الوعد المنشود والذي يصب في نصرة الله للحق .
فمن التقاط فرعون لموسى إلى طلب زوجته منه بأن لا تقتله {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}
أي قدرة تلك التي تدفع فرعون للإبقاء على حياة موسى بل والبحث عمن ترضعه والخوف عليه من الموت أو الذبول ، وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنوده. فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون.
ومن ثم عودة إلى مشهد الأم المسكينة التي وصف القرآن قلبها بصورة حية ” فَارِغًا ” لا عقل فيه ولا وعي حتى كادت تقول أنا أمه فربط الله على قلبها بالصبر لتكون من المؤمنين المصدقين بوعد الله .
ولكن أم موسى لم تسكت وأبت الانتظار دون عمل فكان لا بد من بحث ومحاولة.
فقالت لابنتها ” قُصِّيهِ ” أي اتبعي أثره واعرفي خبره إن كان حياً. فلم تتوان الفتاة عن تلبية طلب أمها، لعلمها أن الوصول إلى الغاية لا بد من عمل وأن وعد الله لا يتحقق للمتقاعسين.
وبعد الصبر والعمل والمثابرة يأتي وعد الله وتتحقق البشرى يقول الله تعالى : { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}
وقد عاد الطفل الغائب إلى أمه الملهوفة معافى في بدنه مرموقاً في مكانته يحميه فرعون وترعاه امرأته .
فجاءت هذه المشاهد لتبين أين يكون الأمن وأين تكون المخافة، وتعلم أن الأمن إنما يكون بجوار الله والتوكل عليه خير توكل والصبر والعمل والتبات والتصديق بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد.
وسنة الله لا تتبدل ولا تتغير ، ونحن هذه الأيام في الذكرى السابعة والثمانين لهدم الخلافة وفي صراع مرير لاستئناف الحياة الإسلامية منذ أكثر من سبعة وخمسين عاماً من العمل الجاد المجد.
والهجمة على الإسلام وأهله تزداد يوماً بعد يوم فاشتد الكرب وازداد الابتلاء على حملة الدعوة المخلصين في الأرض وازداد الصد والأذى في سبيل الله ، وطغى السلطان وبات هناك فراعنة في هذا الزمان.
فمن سجن وتعذيب وملاحقة إلى صدٍ حتى عن إحياء هذه الذكرى الأليمة.
فكان من الناس من يقول : لقد كثرت ألوان الفتن والتضليل والتحريف وتأخر النصر فهل من سبيل؟؟
وهل من مخلص يخلصنا مما نحن فيه من ذلٍ وهوان واستضعاف ؟؟
أين أهل القوة والمنعة ؟
ألا من ناصرٍ لهذا الدين؟؟
فهل انعدم الرجال وبتنا في زمن الجبناء؟
والكثير من هذه الأسئلة التي تتبادر في أذهان الناس وبعض حملة الدعوة، فمنها ما يُسمع على ألسنتها ومنها ما يجيش في الصدر دون تصريح، دلالة على النفسيات الراقية التي تتطلع إلى النصر وتتوق إلى العزة بل وكرهت عيشة الذل والمهانة .
وهنا نقول
إن الله تبارك وتعالى العزيز الرحيم العليم الحكيم القادر المقتدر إنما أمره بين الكاف والنون وهو الراعي والحارس لهذا الدين والحامي لهذه الدعوة وأهلها كما حرس موسى بعينه التي لا تنام ورده إلى أمه لتقر عينها .
والله تعالى وعدنا ووعده الحق وعد هذه الفئة العاملة المخلصة بالاستخلاف والتمكين والسنا والرفعة قال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
فهذه الآية فيها وعد جازم بالاستخلاف والتمكين لمن آمن وعمل صالحاً بصدقٍ وإخلاص ومثابرة دون كلل أو ملل ولا نظر إلى متاع الدنيا من مناصب أو إرضاء لعباد الله دون الله ولا خوف من الظالمين وأعوانهم.
فالمسير وأن طال والاحتكاك والمواجهة وإن ازدادت فما هي إلا إرهاصات انبلاج فجر الحق ودنو ولادة عملاق الخلافة ليعود المسلم عزيزاً ممكنا في الأرض كما كان وينشر الله الإسلام فلا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا ودخل إليه الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل.
عز يعز فيه الإسلام وأهله وذل يذل به الشرك وأهله
نسأل الله العليّ القدير أن يجعلنا من شهودها وجنودها
اللهم استجب اللهم آمين.