بين الحقيقة والسراب المسلسلات
تتنوع أساليب إيصال المعلومة وتختلف تبعاً لتطور وسيلة الاتصال وتقدمها ، ومع ظهور الإذاعة المرئية أو ما اصطلح على تسميته بالتلفاز ، بدأ القائمون عليه بتشكيل وتطويع أي نوعٍ من أنواع التعبير لتسهيل وصول المعلومة ، وبما أن مثل هذه الوسيلة تخضع للسيطرة السياسية فقد بات من السهل تسميم الأفكار وتلويث العقول ، خاصةً أنها تبث بلغتنا لكنها تنفث غير فكرنا .
وما أود الوصول إليه من أشكال التعبير السهل على المتلقي أن يتأثر بها بل ويستمتع للتلقي منها هو التمثيل ، ولو أردنا تعريفه : فهو تقمص الشخصيات الدرامية ومحاولة محاكاتها على أرض الواقع وتجسيد ملامح وصفات تلك الشخصيات وأبعادها المتباينة في الرواية أو المسرحية المكتوبة ، وقد ظل المسرح هو المكان الذي يتم فيه التمثيل لعصورٍ عدة حتى وقتنا الحاضر ، لكنه في أيامنا هذه أخذ بعداً آخر فبعد أن كان الممثل لا تقبل شهادته أمام المحاكم أصبح الممثل أبرز نجوم وفناني المجتمع في غالبية دول العالم .
ومن هنا تنطلق خباثة ما يبث عبر المسلسلات والتمثيل ، فقد جعلوا من أبطال المسلسلات قدوة لأبنائنا وقد بات تقليدهم أمراً طبيعياً في المنازل ، بل ويصفق الأهل لابنهم الصغير عندما يقلد دور الزعيم أو يحاول أن يكون متسلطاً كما هو الحال مع مسلسل باب الحارة الذي أخذ حيزاً كبيراً عبر وسائل الإعلام حتى الفضائيات الإخبارية منها ، خاصةً أن هذا النوع من المسلسلات يحاول التقرب من المتلقي عبر أخلاقياتٍ يحاول المسلسل من خلالها جعل المتلقي يحن لتلك الأخلاقيات التي باتت غائبةً بشكلٍ كبيرٍ من حياتنا اليوم ، لكنَّ هذا التركيز به من المكر بالإسلام والمسلمين ما لا يمكن غض الطرف عنه، فهم يصورون الإسلام يظلم المرأة ويستبدُّ بالرأي ، إضافةً لما يحويه هذا المسلسل من مصطلحاتٍ دخيلة ومحاولة ترسيخها كالمقاومة وتصويرها أنها قمة البطولات، والتركيز على الحارة ضد غيرها من الحارات وهنا تبدأ الدعوات الهدَّامة للوطنية والقومية النتنة.
وهذا المسلسل وغيره كبيت جدي وأهل الراية وغيرها الكثير ، تجعل المتلقي في حالةٍ من الرضى عند متابعتها فهي أخف بلاءً من وجهة نظره من تلك المسلسلات الخليعة الماجنة ، وهذا ليس رأيه فحسب بل إن علماء السلاطين ومشايخ الفضائيات يؤيدونه في ذلك الرأي بل ويدعمونه ، ولا ننسى ما قاله الشيخ عبد الرحمن الكوكي عندما استضافه فيصل القاسم في برنامج الاتجاه المعاكس ، وكانت الحلقة تتحدث عن المسلسلات التاريخية في رمضان ، فقد قال الكوكي :” بأنها نتاجٌ ثقافيّ وأنه مع أيِّ نتاجٍ ثقافيٍّ لا يخالف كتاب الله وسنة نبيِّه،وأضاف بأنه مع الفن وليس ضده ما دام يخدم القيم والأخلاق ، وأن مثل تلك النتاجات الإعلامية فيها من الدعوة للإخلاق ما فيها ، أفضل من تلك الهابطة والراقصة والماجنة”.
وانتقالاً من الدراما السورية إلى المسلسلات الخليجية ، فهي أيضاً لم تكف يوماً عن الطعن في ديننا الحنيف ، ولو توقفنا قليلاً عند مسلسل أم البنات الذي بُثَّ في رمضان المنصرم أيضاً ، هو نوعٌ آخر من التضليل والتشكيك بعقيدتنا الإسلامية ، وقد كانت أحداثه تدور حول عائلةٍ مكونةٍ من ست بنات والأم والأب الذي أبرزه المسلسل في قمة التسلط وأعطى صورةً بأن طاعة المرأة لزوجها هي ظلمٌ لها وعبودية ، وأنه لا بد للمرأة من التحرر والانعتاق من هذه العبودية بتمردها .
ثم مسلسل صبايا الذي تروي فيه الكاتبة رنا الحريري بقالب اجتماعي كوميدي خفيف حكاية خمس من الفتيات جمعهن منزل واحد بعد قدومهن إلى دمشق لأهداف مختلفة، وإليهن تُضاف الجارة الحشورة، ‘صبايا’ مسلسل نسائي بامتياز للرجل حضور في بعض حلقاته بصفة الضيف .
وفي هذا المسلسل بالذات تظهر ملامح الحياة الغربية بوضوح ، فالفتيات لا يتدخل أحدٌ بسلوكهنّ بل ولهنّ علاقات اعتبرها القائمون على المسلسل طبيعية ، وتم إبرازها على أنها ممكنة الحدوث في أي لحظة وأنها ظاهرة لا بدّ منها.
ويكبر الخطر مع المسلسلات عندما تبث بكمياتٍ هائلة واتخاذ مواسم لها كرمضان ، حيث تعمل على إبعاد الناس عن الجو السليم للعبادة ، ولا يقتصر الأمر على بثها في مواعيد محددة بل يتعداها للإعادة خلال العام ولأكثر من مرة ، كم أنها تبث في اليوم الواحد على أكثر من فضائية ويعاد بثها في أوقات مختلفة ، بحيث تعمد على اصطياد المتلقي في أي وقتٍ تتاح له فرصة مشاهدتها .
كثيرةٌ هي المسلسلات وكم منا يتابعها ، لكن المفارقة كيف ننظر لما يبث عبرها ، وكيف كنا ننظر لها على أنها مجرد حكاية فهي للمدقق حكايةٌ حقيقيةٌ من الخيانة بتنا نرى بوادرها في كل مشهد بل ومع كل لقطة .
نعم إن هذه المسلسلات تأخذنا إلى عالم خيالي جميل خالٍ من المشاكل ، إلا مشاكل البطل والبطلة التي تُحل على أساس علماني ، لا تحتكم لشرع الله تعالى عالم لا تحتاج فيه إلى عقل يُفكر ، ولا يتجاوز فيه تفكير المتابع غير الحل الذي وضعه كاتب المسلسل ، وإن ما يحصل للمتلقي بعد المتابعة إنما هو الخيبة والحسرة والندامة ، على ساعاتٍ أمضاها في ملاحقة أحداثٍ وهميةٍ بعيداً عن هموم الواقع التي لا بدَّ لنا من حلها .
وإلى حلقةٍ أخرى ألتقيكم بعون الله مستمرةً في نقدي على ذات الوتيرة ، حتى يتبين السراب ويتضح لكل ذي بصرٍ وبصيرة ، ولا يبقى أي حججٍ لإعلام السوء الذي إن ذكرناه بقوله تعالى: ” وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ” ، قال وهو يتمسكن (العين بصيرة واليد قصيرة) ..