الإستراتيجية الأمريكية في العالم الإسلامي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه أفضل الصلاة والتسليم وبعد:
فبعد أن تحقق للكفر وقادته وأعوانه القضاء على دولة الخلافة كجهاز تنفيذي يطبق الإسلام على المسلمين ويسعى لنشر الإسلام والدعوة له بين الناس أجمعين بدأت دول الكفر برسم الخطط بعيدة المدى للحيلولة دون عودة الدولة الإسلامية إلى الحياة لتحول دون عودة الأمة الإسلامية أمة عظيمة تنشر العدل والهدى بين الأمم, ولما كانت معرفة السياسة الخارجية لكل دولة في العالم أمراً لا بد منه لكل سياسي مسلم , فإن إدراك كنه وخفايا وخطط وأساليب ووسائل الدول الكبرى أمر بالغ الأهمية لكل مسلم ولكل سياسي يعمل لإنهاض الأمة مع إدراك الأسس والقواعد التي تقوم عليها سياسة هذه الدول .
ولذلك كان هذا اللقاء هذه الليلة المباركة محاولة متواضعة لإلقاء الضوء وتسليطه على الخطط الأساسية والأفكار المركزية التي تبني عليها الدولة الأولى في العالم والعدو الأكبر للمسلمين أمريكا سياساتها للهيمنة على العالم أجمع والحيلولة دون عودة الإسلام فاعلاً مؤثراً ونظام حياة للبشرية كلها من خلال عودة الخلافة وتبوء المسلمين مكانهم الطبيعي في قيادة البشرية الذي وعدهم الله عندما خاطبهم سبحانه وتعالى ” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..”
- مفهوم الإستراتيجية وتعريفها
يعد مفهوم الاستراتيجية من أكثر المفاهيم غموضاً في حقل الدراسات السياسية، فبالرغم من أن المفهوم نفسه قد نشأ في الفكر اليوناني منذ عصور ما قبل الميلاد إلا أن قلة من المفكرين الذين تناولوا الموضوعات والقضايا الاستراتيجية فضلاً عن ارتباط مفهوم الاستراتيجية بمبادئ استخدام القوة العسكرية فقط، قد أديا إلى حصر المفهوم في نطاق ضيق للغاية حيث أنه لم يبدأ في التطور والاتساع ليشمل العديد من الأبعاد والمجالات الأخرى سوى منذ فترة قريبة نسبياً.
إن مفهوم الاستراتيجية بمعناه الشامل يهتم بحشد واستخدام القوى الشاملة للدولة في أوقات السلم والحرب لدعم السياسة العامة للدولة في ضوء القدرات والموارد المتاحة وإمكانيات استخدامها في ظل الظروف الحاضرة والمتوقعة.
أما الاستراتيجية القومية National Strategy فتركز على التصور العام دون الاهتمام بالتفاصيل وتأخذ في اعتبارها العلاقات المتداخلة بين المتغيرات المختلفة، والتأثير المتبادل الذي يفرضه كل منها على الآخر في إطار البحث عن أفضل الأساليب والطرق والأدوات لتحقيق الأهداف التي يتولى تحديدها السياسيون، ولهذا فإن صياغة الاستراتيجية القومية عادة ما تكون من اختصاص رؤساء الدولة أو الحكومات مع مجلس الدفاع الوطني أو مجلس الأمن القومي.
وتتضمن الاستراتيجية القومية (الشاملة ـ العليا) العديد من الخطط (التخصصية) المنبثقة عنها مثل الاستراتيجية العسكرية والسياسية والاقتصادية ويتم التنسيق فيها بينها لخدمة الهدف القومي سواء كان ذلك وقت السلم أو الحرب، وهذا يعني أن الاستراتيجية العسكرية لا تمثل سوى جانب واحد من جوانب الاستراتيجية الشاملة، كما أن كل استراتيجية تخصصية تشمل عدة استراتيجيات خاصة بالقطاعات تتضافر فيما بينها لتحقيق الهدف المنوط بها، على سبيل المثال تقسم الاستراتيجية العسكرية إلى استراتيجية برية، بحرية، جوية، وإن كانت في إطار استراتيجية عسكرية واحدة.
إن الاستراتيجية في جوهرها عبارة عن أداة للوصول إلى تحقيق الأهداف الموضوعة، وهي أداة تقوم على حسابات الواقع والافتراضات النظرية والفكرية المرتبطة بهذه الأهداف، وبالتالي تركز على حسابات الواقع والافتراضات النظرية الفكرية المرتبطة بهذه الأهداف، ومن ثم فهي تركز على الأساليب والأدوات، وبعبارة أخرى فإن الاستراتيجية عبارة عن علاقة بين الحاضر والمستقبل وهي تحديد للمناهج والأدوات على ضوء رؤية مستقبلية للأهداف ونظرة معرفية (فلسفية) للتطور، وتتضمن بالضرورة ترجيح تصور على آخر وبديل على بديل بناء على هذه الرؤية وهذه النظرة.
إن المهمة الأساسية Main Mission للاستراتيجية هي تكييف الوسائل والإمكانات المتاحة ووضعها في خدمة الأهداف العامة للدولة للوصول إلى تحقيق هذه الأهداف.
أما هدف الاستراتيجية Target of Strategy فهو المواءمة بين الأهداف القومية وبين القوى والوسائط التي تشكل عاملاً لتحقيق هذه الأهداف،وإيجاد أفضل الطرق للاستخدام الأمثل للقوى المتاحة من أجل تحقيق الأهداف وبذلك فإن هدف الاستراتيجية يرتبط ارتباطاً مباشراً بالاستراتيجية نفسها.
نظرة تاريخية:
منذ الحرب العالمية الثانية وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مرت هذه الاستراتيجيات بتدرج تاريخي وتطورات مرحلية أبرزها:
ـ إستراتيجيات الحرب الباردة: والتي امتدت منذ الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينات.
أولى الاستراتيجيات كانت إستراتيجية الرد الشامل:
ومفادها أن الولايات المتحدة تكون جاهزة لتوجيه ضربة نووية شاملة في الزمان والمكان المناسبين وذلك خارج حدود أوروبا. في الخمسينات اعتمد المذهب العسكري الأمريكي على التهديد بإشعال الحرب العالمية النووية من أجل تحقيق أهداف أمريكا الإستراتيجية السياسية والعسكرية،
وفي الستينات ظهرت «إستراتيجية الرد المرن» التي تعتمد المرونة والحسم في الوقت نفسه، بحيث تلحظ الاستعداد لخوض حرب عالمية نووية، أو تقليدية كبيرة أو صغيرة أو ما يسمى بــ «الحرب المحدودة» مع إمكانية استخدام الوسائط النووية.
في العام 1971 أعلنت القيادة الأمريكية عن إستراتيجية جديدة سميت «إستراتيجية الردع الواقي» التي تتعامل مع أربعة أنواع من الحروب والصراعات هي: الحرب النووية الإستراتيجية الشاملة، الحرب النووية المحدودة على مسرح العمليات، الحرب التقليدية الشاملة، الحرب التقليدية المحدودة على مسرح العلميات.
على عتبة الثمانينات، حصل تغير جذري في الإستراتيجية الأمريكية كانت سمتها الأولى أن القوة هي المؤثر الوحيد في السياسة الخارجية لواشنطن، والثانية أن مساحة تنفيذها وانتشارها تشمل كل المناطق الهامة ما وراء البحار التي تشكل مصالح حيوية للولايات المتحدة خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، سواء في زمن السلم أو الحرب. وبناء على الإستراتيجية الجديدة قسمت القوات المسلحة الأمريكية في العالم إلى أربع قيادات موحدة هي: قوات إستراتيجية، قوات عامة، قوات ووسائط نقل القطاعات والتشكيلات، وقوات التدخل السريع. هذا بالإضافة إلى انتشار عدد كبير من القواعد العسكرية في جميع المناطق المهمة والإستراتيجية في العالم.
سميت الإستراتيجية الجديدة «الفعل من موقع القوة»، وعرفها الجيش الأمريكي بأنها «فن استخدام القوة المسلحة وعلمها، بغرض تحقيق الأهداف السياسية القومية، عن طريق استخدام القوة أو التهديد بها.
ـ إستراتيجية العمليات الجوية – البرية: وهي الإستراتيجية التي تبنتها وزارة الدفاع الأمريكية في بداية التسعينات، والتي تستند على العمليات الهجومية الجوية والبرية المشتركة ذات الطابع السريع والحاسم، والتي تجمع بين المناورة الواسعة للقوات والاستعمال الكثيف للوسائط النارية والتدميرية العالية الدقة على عمق كبير. يتركز عمل هذه الإستراتيجية على سحق العدو في كامل عمق البنية العملياتية لقواته وذلك عن طريق التأثير عليه إلى أقصى حد ممكن من خلال: استخدام الأسلحة المناسبة بما فيها غير التقليدية، تزويد قادة التشكيلات المشتركة بالمعطيات الإستخبارية والاستطلاعية أثناء المعركة، القيام بالأعمال المنسقة تبعاً للأهداف والزمان والمكان بين الطيران وقوى وتشكيلات ووسائط القوات البرية. أما هدف إستراتيجية العمليات الجوية البرية فهو التفوق العملياتي أو التكتيكي الذي يؤدي في النهاية إلى سحق العدو على مراحل. وقد طبقت هذه النظرية في عملية «عاصفة الصحراء» ضد القوات العراقية التي احتلت الكويت عام 1991.
فقد أثبتت التجربة ديمومة الإبقاء على الاستراتجيات والخطط الأمريكية الموضوعة من قبل السياسة الأمريكية لتحقيق المصالح الأمريكية والمحافظة عليها ، وإن الذي يكون محل تغيير وتبديل هو الأساليب المتخذة لتنفيذ الخطط والإستراتيجيات،لأن الأساليب والوسائل غالباً ما تكون مستوحاة من الواقع أو الظرف ،وهذه بطبيعة الحال أكثر تغيراً من الأهداف والغايات .
أحداث 11 سبتمبر 2001
إن جوهر السياسة الخارجية الأمريكية هو تحقيق المصلحة القومية العليا للبلاد، وأن التوسع الأمريكي الإمبراطوري ليس وليد أحداث 11 سبتمبر، وإنما هو مرافق لمسيرة أمريكا تاريخيًا؛ فالقوة مكون أساس من مكونات النموذج الأمريكي، لكن هذا التوجه اكتسب أبعادًا أكثر خطورة منذ وقوع هذه الأحداث، التي مثلت فرصة ذهبية لتطبيق أفكار المحافظين الجدد الداعية إلى استخدام كل عناصر القوة المتاحة لفرض الهيمنة الأمريكية على العالم، وهو الأمر الذي عبر عنه دونالد رامسفيلد بوضوح قائلاً: إن الحادي عشر من سبتمبر أحدث ذلك النوع من الفرص التي وفرتها الحرب العالمية الثانية من أجل إعادة صياغة العالم، كما ساهمت تلك الأحداث في إضفاء نوع من المشروعية على عملية الاستفراد بالسياسة العالمية من قبل الولايات المتحدة، وتكريس نظام القطبية الأحادية الذي ولد فعليًا بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، لكنه بقي -بسبب افتقاره للشرعية- غير قادر على الإفصاح الحر عن نفسه حتى تاريخ الحادي عشر من سبتمبر.
- إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2002/2006
على الرغم من أن السياسة الأمنية الأمريكية كانت تعيش مرحلة تحول قبل ايلول / سبتمبر 2001م إلا أن الصدمة الناجمة عن هذه الهجمات أضافت إليها بعداً جديداً، فقد واجهت الولايات المتحدة تهديداً جديداً ومتغيراً، في حين وجدت الحكومة الأمريكية نفسها من دون فكرة شاملة أو خطة لحماية الوطن الأمريكي من أي هجمات إرهابية جديدة. وجرت صياغة الرد الأمريكي على الحاجة إلى سياسة أمنية جديدة في ثلاث وثائق نشرت في العام 2002م وهي «إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة» و «الاستراتيجية القومية لمكافحة أسلحة الدمار الشامل» و «الاستراتيجية القومية لأمن الوطن» وهذه الوثائق الثلاث تحدد مختلف أوجه الجواب الأمريكي الذي يفترض أن يحشد أدوات سياسة وعسكرية ودبلوماسية وقانونية (على الصعيدين المحلي والدولي) ضمن برنامج إجمالي لتعزيز الأمن الأمريكي. وكانت نظرية الحرب الاستباقية Preemptive War أو نظرية «بوش» الأمنية.
لقد حدد المذهب العسكري الأمريكي الجديد، هذا لاستراتيجية الحرب الاستباقية الأمريكية بضع أهداف إستراتيجية منهما اثنان رئيسيان هما: مكافحة الإرهاب، والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل
استصدار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في العشرين من أيلول 2002 و تم وضعها في تقرير للبيت الأبيض، اعتبر بمثابة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة.
صحيح أن بعض القادة الأمريكيين قد اعتبروا أن التقرير يحسم نقطة انعطاف بين سياستين :الأولى سياسة الاحتواء و الردع و الثانية سياسة القضاء على الأعداء،إلا أن التقرير المذكور لم يجعل استراتيجية التدخل المباشر مطلقة،إذ اعترف بضرورة الردع أولا ثم الانتقال للقضاء على (العدو) إذا فشل الردع. لكن رائحة البارود و تواشيح الدم تظهر واضحة في تلك الاستراتيجية عندما نقرأ فيها:” أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تتمتع بوضع لم يسبق له مثيل في التاريخ، عسكريا و اقتصاديا و سياسيا، و الآن تجد نفسها أمام واجب أخلاقي و مسؤولية تاريخية؛” و يتجسد هذا الوضع بأن الولايات المتحدة قد وجدت نفسها في وضع أقوى دولة في تاريخ العالم ، فرأى بعض الذين يقومون على رسم سياستها بأن لها فرصة أن تسيطر على العالم، و هذا ما لم يكن متوافقا عليه و يفسر خلفية انتقاد الرئيس الأمريكي السابق( بيل كلينتون) للرئيس جورج بوش في استراتيجيته الجديدة عندما قال :”ثمة فرق بين أن تدير العالم و أن تسيطر عليه”. وهنا نلاحظ أن الاستراتيجية الجديدة تفضل السيطرة على الإدارة.
أن واشنطن ستستخدم نفوذها لنشر القيم الديموقراطية وفتح مجتمعات العالم أمام( قيمها)، ولنلاحظ أن الرئيس الأمريكي لم يستدرك أو يناور حول مسألة (قيمها) التي ليست ولن تكون ولن تتقاطع مع قيم غيرها.وكل ذلك تحت ذريعة أن ذلك سيؤدي إلى خلق توازن قوى لصالح الحرية الإنسانية؟؟!.
ولن ينسى بوش في تلك (الاستراتيجية) القول أن أميركا ستصرّ على الحفاظ على قوتها الفريدة وسلطتها العالمية وأنها ستكون قوية لدرجة أنها ستمنع خصومها المحتملين من السعي لبناء قواتهم العسكرية بأمل تخطي أو (مساواة) الولايات المتحدة. إذن فهي ديموقراطية لا تسمح بقوة أخرى غير الولايات المتحدة، بمعنى أن الديموقراطية ونشر القيم الأمريكية سيخدم بوضوح أحادية ومركزية أمريكية، فإذا كان الجدال الثقافي مسموحاً بخصوص شرعية المركزية الأوروبية فهل هو مقبول لصالح المركزية الأمريكية .
وإذ تركّز الإستراتيجية الجديدة التي خرجت على قاعدة عدم التدخل الخارجي، وطوت عقدة فييتنام على كيفية استخدام المساعدات الخارجية، والدبلوماسية العامة، والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها للانتصار في التنازع الدائر في العالم الآن بين مختلف القيم والأفكار، بما في ذلك <<المعركة من اجل مستقبل العالم الإسلامي!!!؟؟؟>>، بل إنها تقول باختصار شديد وإيجاز واضح أن قيمها هي التي يجب أن تزيل التنازع سالف الذكر، والمسألة واضحة ان لا مستقبل للعالم الإسلامي بقيمه.
وتقول استراتيجية الحرب الجديدة عند الرئيس الريغاني الجديد أن الولايات المتحدة <<سوف تسعى باستمرار للحصول على دعم المجتمع الدولي إلا أنها لن نتردد في التصرف منفردة إذا دعت الضرورة لممارسة حقها في الدفاع عن النفس من خلال التحرك بشكل استباقي>> ضد التنظيمات الارهابية التي تهدد اميركا <<لمنعها من إلحاق الضرر >>.
إذن المسألة لا مجال لبحثها وهي رزمة واحدة: الديموقراطية على الحاملة العسكرية، وفرض القيم الأمريكي، وتجاوز المجتمع الدولي والركوب فوقه ، والانقضاض على مبدأ السيادة لصالح الاستباق الذي يعمل على النوايا وليس على القرائن والبراهين.حيث ” وكمسألة( طبيعية) ، (طبيعية فقط بالنسبة للولايات المتحدة وبالتالي طبيعية بالنسبة للعالم رغماً عنه)، سوف تتحرك أميركا ضد الأخطار البارزة الجديدة قبل أن تتحول الى أخطار كاملة>>. وهنا ينبع فجأة مفوم السيادة الذي يعني بنسخته البوشية <<إقناع او إرغام(نعم أو إرغام بمنتهى الوقاحة ويكون الأمر سيادياً) الدول على تحمل مسؤولياتها السيادية بعدم مساعدة الارهاب<<.
وإذا كان البعض سيقول أين السلام في الشرق الأوسط وكيف يتم اعتماد مبدأ التوازن والعدل تأتي الاستراتيجية الجديدة لتقول “ان السلام لن يتحقق بين الطرفين من دون توفر الحرية للطرفين
- الإستراتيجية الأمريكية في عهد أوباما
جريا على عادتها كل أربع سنوات، أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية في فبراير/شباط 2010 تقرير “المراجعة الدفاعية الرباعية 2010” ، (Quadrennial Defense Review) والذي يعبّر عن إطار العمل الإستراتيجي للوزارة ويساعدها على تحديد السياسات وتطوير القدرات والمبادرات في مجال التعامل مع التحديات الآنية والمستقبلية.
- “
تسعى الوثيقة كما الإصدارات السابقة إلى تحديد الأهداف الإستراتيجية، وكذا المخاطر والتهديدات الرئيسية المحتملة التي سيكون على الجيش الأمريكي مواجهتها في الآماد القادمة، ولذلك يمكن وصفها من هذه الزاوية بأنها بمثابة العقيدة العسكرية للجيش الأمريكي.
“
وتعدّ هذه الوثيقة التي تقع في 128 صفحة، الإصدار الرابع بشكل عام في سلسلة الإصدارات السابقة، وهي الأولى في عهد الرئيس “أوباما” ووزير دفاعه “روبرت غيتس”. استغرقت عملية صياغة الوثيقة عاما كاملا، وشارك في إعدادها أكثر من 700 شخصية من مكاتب ووكالات مختلفة بوزارة الدفاع، ولم تقتصر وظيفة هؤلاء على التعاون في مجال صياغة هذه الوثيقة فحسب، بل سعت مجموعات المصالح الخاصة التي تمثلهم إلى التنافس على أن تكون أفكارهم واقتراحاتهم متضمنة في التقرير النهائي، وأن يخصص لهم جزء من أموال الموازنة المرصودة لهذا الغرض.
تسعى الوثيقة كما الإصدارات السابقة إلى تحديد الأهداف الإستراتيجية، وكذا المخاطر والتهديدات الرئيسية المحتملة التي سيكون على الجيش الأمريكي مواجهتها في الآماد القادمة، ولذلك يمكن وصفها من هذه الزاوية بأنها بمثابة العقيدة العسكرية للجيش الأمريكي. كما تحدد هدفين رئيسيين يتمثلان أولا في إعادة التوازن لقدرات القوات المسلحة للولايات المتحدة الأمريكية ليكون في وسعها النصر في الحروب الراهنة، وثانيا العمل على بناء القدرات اللازمة للتعامل مع حروب المستقبل وحسن التكيف مع مسارحها.
تزامن الكشف عن الوثيقة مع الإعلان عن الموازنة الدفاعية الأمريكية لعام 2011 التي زادت بنحو 44 مليار دولار عن العام الماضي لتصل إلى 708.8 مليارات دولار هذه السنة، وهي تتضمن ميزانية حربي العراق وأفغانستان، والتي تبلغ قرابة 160 مليار دولار في العام الحالي ومثلها في العام المالي 2011 القادم.
ومن الملاحظ أن الوثيقة الجديدة تأتي في ضوء عدد من الحقائق المرّة التي تعاني منها الولايات المتّحدة، والتي غالبا ما تخلق فجوة بين الطموح الذي تعكسه هكذا تقارير وبين الواقع الفعلي الذي تعيشه القوة الأمريكية اليوم، ومن ذلك:
- لا تزال أمريكا تخوض حربا شرسة في أفغانستان والعراق منذ العام 2001، وبدا واضحا من خلال التجربة بأنّ جيشها غير قادر على حسم وربح حروب إقليمية غير تقليدية تخوضها مجموعات مسلحة صغيرة.
- لا يزال الملف النووي الإيراني الذي يشكل أزمة قيد البحث والتفاوض منذ أكثر من سبع سنوات يمثل التحدي الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني أنّ أمريكا غير قادرة على التعامل بحزم مع دول من الصف الثالث إن صح التعبير ككوريا الشمالية وإيران خاصة في ما يتعلق بمنع أو وقف انتشار أسلحة الدمار الشامل.
- لا تزال الولايات المتّحدة غير قادرة على الخروج من الأزمة الثلاثية المركّبة المكونة من العجز المالي المزمن والدين المالي الضخم والتمدد الدفاعي في الخارج إلى درجة الشلل.
وفي هذا السياق تأتي هذه المراجعة الدفاعية لتوفر الإطار النظري والعملي للولايات المتحدة وتمدها بالآليات اللازمة لمواجهة التحديات الآنية أو المستقبلية بكفاءة وقدرة.
استراتيجية الدفاع الامريكي و اهدافها
تواجه الولايات المتحدة سلسلة من التحديات والفرص، في الوقت الذي يشهد فيه النظام الدولي تحولا مهما، وقد تطلب ذلك خوض الجيش الأمريكي وعلى امتداد ما يزيد عن 8 سنوات حروبا مختلفة في أفغانستان والعراق وضد القاعدة وحلفائها.
فإضافة إلى النزاعات القائمة حول العالم، تواجه الولايات المتّحدة حالة معقدة وغير يقينية فيما يتعلق بالأمن، حيث المتغيرات المتسارعة والنقلات المتتابعة والتحولات العميقة التي لم يشهدها المحيط الدولي منذ الحرب العالمية الثانية ولا شهدها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. فالقوى الصاعدة والتأثير الكبير للاعبين غير حكوميين جدد، إضافة إلى انتشار أسلحة الدمار الشمال والتكنولوجيا المدمّرة وغيرها كلها من العناصر التي تشكّل تحدّيا كبيرا للنظام الدولي.
أولا: الانتصار في حروب اليوم
تحتل القاعدة وطالبان في أفغانستان الأولوية القصوى للولايات المتحدة ولوزارة الدفاع الأمريكية، وهو ما انعكس سواء على صعيد الموازنة العسكرية أو على صعيد مشاغل الجيش الأمريكي الذي يعمل بالتعاون مع الحلفاء الإقليميين والدوليين على بذل الجهود اللازمة لتعطيل عمل القاعدة وتفكيكها والقضاء على ما أسماه بالملاذات الآمنة التي تتمتع بها داخل الدول المعنيّة.
صحيح أنّ الجيش الأمريكي أصبح أكثر تمرسا اليوم على مواجهة وتعطيل “الشبكات الإرهابية”، إلا أنّ “الإرهابيين” كما تقول الوثيقة أصبحوا أكثر سرعة في اعتماد سياسة التعلم والتأقلم وهو الأمر الذي يشكل تهديدا دائما للولايات المتّحدة وكل شركائها. مع العلم أن النجاح الدائم والمستديم يتطلب استعمال كل عناصر القوة الأمريكية والدولية، “فإننا لن نتردد في توظيف القوة ضد القاعدة وحلفائها حالما تطلب الأمر ذلك”.
فمحصّلة الحروب الدائرة اليوم من شأنها أن تحدد البيئة الأمنية العالمية لعقود قادمة، والانتصار في حربي أفغانستان والعراق ومناطق أخرى من العالم يعد أولوية قصوى لدى وزارة الدفاع الأمريكية.
ومن أجل ذلك جمعت الولايات المتحدة الأمريكية جهودها مع الحلفاء والشركاء لمساعدة حكومات أفغانستان وباكستان للقضاء على القاعدة، وبحلول نهاية العام 2010 سيكون هناك مائة ألف جندي أمريكي “إلى جانب الحلفاء والشركاء يقاتلون من أجل حرمان القاعدة من الملجأ الآمن” وفي نفس الوقت من أجل إحباط الزخم الذي تمتعت به طالبان في المرحلة السابقة.
لا شك أنّ نجاح الجهود الأمريكية في أفغانستان يرتبط ارتباطا وثيقا بالشراكة التي تستند إلى الاحترام والمصالح المتبادلة مع باكستان التي تركز على مواجهة تنظيم القاعدة وحلفائها، علما بأنّ المصالح الأمريكية في ضمان أمن واستقرار باكستان ستكون طويلة وراسخة حتى بعد انتهاء الحملة الحالية.
أما في العراق فقد ساعدت الجهود المبذولة على تولي الحكومة العراقية سلطاتها في ضمان الأمن وتوفير الخدمات للمواطنين، على أن تقوم أمريكا بعملية انسحاب مسؤولة من العراق على ما يذكر التقرير. وستواصل القوات الأمريكية لعب دور مهم في تدريب ودعم القوات العراقية وتزويدها بالمشورة اللازمة، بينما يتم العمل مع الشركاء في مناطق أخرى من العالم على تحديد الشبكات الإرهابية وتفكيكها.
في المدى القريب والمتوسط، فإن أعدادا كبيرة من القوات الأمريكية ستكون عاملة على الأرجح في أفغانستان والعراق، وهو ما يعني أنّ الخطوات اللاحقة ستحدد حجم وشكل العناصر الأساسية للقوات العسكرية الأمريكية للسنوات القادمة. أمّا على المدى المتوسط والبعيد، فمن المتوقع أن يتم تحمل المتطلبات التشغيلية للقوات في أفغانستان ومناطق أخرى لهزيمة طالبان وحلفائها.
ثانيا: منع وردع النزاعات
يتطلب منع حدوث تهديدات للمصالح الأمريكية في العالم، العمل على دمج العديد من العناصر مع بعضها، ومن ذلك الاستخدام المتكامل للدبلوماسية والدفاع، جنبا إلى جنب مع الاستخبارات الجيدة وتطبيق سلطة القانون والاستفادة من الوسائل الاقتصادية، وهو ما يتطلب التعاون مع الحلفاء الآخرين وتعزيز المصالح المشتركة وبالتالي تعزيز التحالف القائم.
أمّا قوة الردع الأمريكية فتكمن أساسا في القدرات الجوية والبحرية والأرضية الأمريكية المدعومة بالإمكانيات الفضائية، وبمنظومة الدفاع الصاروخي وبانتشار عالمي فعّال للقوات الأمريكية وبأسلحة نووية، بما يجعلها قادرة على خوض نزاعات محدودة وكبيرة في بيئة صعبة، فضلا عن الرد على مجموعة كبيرة من التحديات التي تفرضها الدول الأخرى أو اللاعبين غير الحكوميين.
وعلى الرغم من الانخراط الحالي في مسارح حروب بعيدة، فإنّ نشاطات الردع التي تشرف عليها وزارة الدفاع تركّز بشكل فعال على حماية الداخل الأمريكي من حدوث أو إعادة حدوث تهديدات إرهابية من القاعدة أو غيرها من الخصوم.
ثالثا: الاستعداد لهزيمة الخصوم والنجاح في مواجهة مختلف الاحتمالات
إذا فشل الردع في القيام بمهمته، وقام خصوم الولايات المتّحدة بتحدّي مصالحها سواء كان ذلك بالتهديد باستعمال القوة أو باستعمالها فعلا، فإن على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للرد بقوة على ذلك. وعلى الرغم من أنّه قد لا تكون هناك ضرورة لاستخدام القوة العسكرية في جميع الحالات، فإن مهمة وزارة الدفاع تتمثل في أن تكون مستعدة لمواجهة هذه المخاطر من خلال توفير مختلف الخيارات الممكنة للرئيس في مواجهة جميع الاحتمالات التي قد تتضمن الرد على هجوم ما، أو على كارثة طبيعية ما، تضرب “الوطن”، أو على اعتداء من قبل دولة خصم، أو على مساعدة ودعم دولة هشّة وتأمين الاستقرار فيها.
أما على المستويين المتوسط والبعيد، فإن على القوات المسلحة الأمريكية التخطيط وتهيئة شروط النصر العسكري في عدد واسع من العمليات التي قد تتم في مسارح متعددة وأوقات متزامنة في الخارج، وهذا يعني قدرة القوات الأمريكية على الفوز في نفس الوقت على دولتين قويتين تواجهانها باعتداء.
وكما أكدت الحروب التي يخوضها الجيش الأمريكي منذ 8 سنوات مضت، على عدم تناسب عمل القوات البرية الأمريكية مع طبيعة هذه الحروب المستجدة الصغيرة والطويلة الأمد، فإن المستقبل قد ينبئنا بإمكانية وقوع حرب بحرية أو بريّة طويلة الأمد وهو ما يجب الاستعداد له على أكمل وجه ممكن.
-
مواجهة البيئة المعقدة للتهديدات المركبة
أولا: طبيعة التحديات
على القوة الأمريكية أن تكون جاهزة لتردع أي هجوم، وتهزم أي دولة تقوم بعمل عدائي، فهذه القدرة مهمة لحماية مصالح الولايات المتحدة وكذلك في ضمان الأمن والاستقرار في مناطق حساسة على الصعيد العالمي.
فكوريا وإيران على سبيل المثال تقومان بتحدي المعايير الدولية عبر اختبار أنظمة صواريخ بالستيّة جديدة بالغة الدقة، وتتمتع بمدى أطول من صواريخ “سكود” العراقية التي تم استعمالها في العام 1991، وباتت قدرات هذين البلدين التي هي في نمو مطرد، تهدد الانتشار الأمريكي في مناطق مختلفة، بصورة لم يعهد لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.
أما الصين، فهي تعمل في إطار خطة لتحديث قواتها المسلحة على تطوير عدد كبير من الصواريخ المتطورة، متوسطة وطويلة المدى، مثل صواريخ “كروز”، فضلا عن صنع غواصات هجومية جديدة مزودة بأسلحة متطورة، وأنظمة صاروخية دفاعية طويلة المدى إضافة إلى قدراتها في مجال الحرب الالكترونية وشبكات الكمبيوتر، والمقاتلات الحديثة، وأنظمة المواجهة الفضائية. الأمر الذي يثير الشكوك فعلا حيال نواياها المرتبطة بهذه التحديثات في ظل انعدام الشفافية أو مشاطرة المعلومات أو الإفصاح عنها.
كما تواجه القوات الأمريكية العديد من التحديات في مجالات أخرى لا تقل خطورة، منها على سبيل المثال أن العديد من الدول قد حصلت خلال السنوات الأخيرة على عدد من صواريخ كروز المتطورة المضادة للسفن، وغواصات صامتة، وألغام متطورة إضافة إلى مجموعة من الأنظمة التي تهدد العمليات البحرية.
ولا شك أنّ القوات الجوية الأمريكية ستواجه تحديات أكبر في النزاعات المستقبلية من قبل الأنظمة الدفاعية المتكاملة الأكثر تطورا وفتكا التي تمتلكها بعض الدول المعادية، مما كان عليه أمر الخصوم في التسعينيات. فالأنظمة المتطورة لصواريخ أرض-جو والتي تساعد روسيا على انتشارها ستفرض تحديا متعاظما للعمليات العسكرية الأمريكية على مستوى العالم، خاصّة وأن العديد من الدول تمتلك القدرة على تعطيل أو تدمير الأقمار الصناعية التي تستخدم للاتصالات أو المراقبة أو الأعمال العسكرية.
أما بالنسبة للفاعلين غير الحكوميين، (كما هو شأن حزب الله مثلا) فقد باتوا اليوم يمتلكون طائرات من دون طيار، وأنظمة صواريخ جوية دفاعية محمولة على الكتف من إيران. ومن الممكن أن يؤدي انتشار، ولو ترسانة صغيرة من الأسلحة النووية من قبل الخصوم ووضعها في يد مثل هذه الجماعات إلى اهتزاز التوازنات الأمنية، في عدد مهم من المناطق الرئيسية في العالم، وهو ما سيقوض الأمن العالمي بشكل خطير جدا.
ثانيا: مكافحة أسلحة الدمار الشامل ومنع انتشارها
مما لا شك فيه أن انتشار القدرات النووية والكيميائية والبيولوجية والراديولوجية سواء بين الدول أو الفاعلين غير الحكوميين يشكل خطرا على قدرة الولايات المتحدة في الدفاع عن نفسها وعن مصالح حلفائها، مثلما يحد من قدرتها على تحقيق الأمن والسلام وضمان الاستقرار الإقليمي وحماية المواطنين، كما أن استعمال القدرات النووية أو البيولوجية سيكون له تداعيات عالمية شديدة الخطورة سواء على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أو على صعيد الأمن العالمي. وعليه فإن منع انتشار واستخدام هذه الأسلحة يشكل أولوية قومية لا يمكن التهاون فيها، وهو ما يتطلب القيام بعملية احتواء جغرافي للمناطق ذات الاهتمام لضمان عدم وقوع هذه الأسلحة والمواد المرتبطة بها في أيدي أعداء الولايات المتحدة.
ثالثا: أمن الفضاء الإنترنتي
أصبح مجال الإنترنت وتأمينها بالنسبة لوزارة الدفاع ذا أهمية توازي أهمية مجال الفضاء والبر والبحر والجو، وليس من قبيل المبالغة القول بأن القوات المسلحة الاستخبارات وتكنولوجيا الأسلحة في الولايات المتّحدة باتت تعتمد على شبكات الاتصال وعلى فضاء الاتصال الإلكتروني (الإنترنت). وليس باستطاعة الجيوش الحديثة في القرن الـ21 القيام بعمليات فعالة ودقيقة من دون الاعتماد على المعلومات الدقيقة وشبكات الاتصالات، والولوج الأكيد إلى شبكة المعلومات وفضاء الاتصال الإلكتروني (الإنترنت).
وتكمن المخاطر هنا في إمكان قيام الشبكات الإرهابية بمحاولة تعطيل الشبكات العسكرية والأنظمة المرتبطة بها لإحداث نوع من الفوضى وإلحاق أضرار اقتصادية، كما قد تحاول المؤسسات الاستخباراتية والعسكرية الخارجية تعديل أو سرقة المعلومات المهمة في قاعدة بيانات وزارة الدفاع بشكل من الأشكال، بما من شأنه أن يؤثر على فعالية العمليات التي تقوم بها القوات المسلحة.
ويتطلب هذا الأمر قيام وزارة الدفاع بتأمين شبكات التواصل الإلكتروني بشكل فعّال، وهو أمر ليس من السهولة بمكان ولا بالأمر الهين، إذا علمنا أنّ وزارة الدفاع تدير أكثر من 15 ألف شبكة كمبيوتر موزعة على 4 آلاف منشأة عسكرية أمريكية حول العالم، وهناك حوالي 7 ملايين كمبيوتر وأداة اتصال تابعة لوزارة الدفاع تعمل يوميا في 88 بلد.
وهذا يعني أن إمكانية الاختراق تظل قائمة بنسبة عالية، لا سيما وأنّ الهجمات في مجال الفضاء الإنترنتي وسرعتها يميل لصالح كفّة الهجوم وليس الدفاع، وهذه الميزة للمهاجمين آخذة في الازدياد مع توفر أدوات القرصنة بشكل أرخص وأكثر تطورا وأسهل للتوظيف والاستخدام من قبل المنافسين مما كان عليه الأمر سابقا.
تعزيز العلاقات مع الفاعلين الرئيسيين في العالم
إن تعزيز التحالفات القائمة، والبحث عن شراكات جديدة يعتبران عنصرين رئيسيين في إستراتيجية الأمن الأمريكية، بحكم أن الولايات المتحدة لا تستطيع الحفاظ على الاستقرار المستديم في النظام الدولي بمفردها. كما أنّ أمن أمريكا القومي وإستراتيجيتها الدفاعية يعتمدان بشكل كبير على بناء علاقات خارجية متينة، وعلى شبكة واسعة من التحالفات والشراكات مع عدد مهم من دول العالم:
• الناتو والاتحاد الأوروبي
لا شك أنّ الولايات المتّحدة ستبقى ملتزمة بحلف شمال الأطلسي الذي يعتبر حجر الزاوية في حماية الأمن الأطلسي منذ الحرب العالمية الثانية، كما أن تجديد الالتزام بذلك يعد أمرا حيويا ومهما لضمان الأمن والاستقرار في أوروبا وخارجها. أما العلاقة بين أمريكا وبين الاتحاد الأوروبي في ظل الناتو فقد أصبحت أكثر أهمية في السنوات الأخيرة، خاصة في أفغانستان حيث تساهم كل دولة في الحلف والاتحاد بالمساعدة في الجهود المبذولة هناك لفرض الأمن والاستقرار العالمي، بما في ذلك المساعدات العسكرية واللوجستية من أجل هزيمة وتفكيك القاعدة وحرمانها من الأماكن الآمنة.
دول أوراسيا
وهي في موقع ممتاز لتحسين أمن الطاقة الأوروبي ودعم الجهود الدولية في أفغانستان، ولعب دور حاسم في مواجهة التهديدات العابرة للدول، بما فيها التطرف وانتشار أسلحة الدمار الشامل والتجارة غير الشرعية. وعلى الرغم من أنّ هذه المنطقة من العالم تعاني من بعض النزاعات التي لم تحل بعد والتي تحول دون ممارسة هذه الدول لجهودها في المواضيع المذكورة بشكل فاعل، إلاّ أنّ الولايات المتّحدة تبذل جهودا كبيرة للعمل على حل هذه النزاعات، وعلى بناء وتمتين الشراكة الأمنية مع هذه الدول، وكذلك دعم جهود الإصلاح والدفاع لديها وتسهيل انخراطها في المؤسسات الأورو-أطلسية.
روسيا
تتشارك الولايات المتّحدة مع روسيا في العديد من المصالح بما في ذلك مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل ومواجهة الإرهاب، ويتم العمل مع موسكو حاليا لتطوير اتفاقية “ستارت” باتجاه جعل العالم خاليا من الأسلحة النووية، وسيتم العمل مع موسكو على عدد آخر من المواضيع البارزة كمستقبل القطب الشمالي وضرورة إقامة منظومة دفاع صاروخية فعّالة لحماية المنطقة من التهديدات الخارجية. كما ستواصل أمريكا انخراطها مع جيران روسيا من منطلق كونهم دولا مستقلة وذات سيادة.
اليابان وكوريا
يتم العمل في الوقت الراهن مع هذين البلدين على تعزيز التحالف القائم وبناء تحالف ثنائي إقليمي شامل من منظور عالمي يقوم على تطبيق الرؤى المشتركة وتعزيز القدرات الأمنية وتعزيز قدرات الردع والدفاع.
أستراليا وجنوب شرق آسيا
إن تعزيز الشراكة مع أستراليا وتعميق العمل معها يظل أمرا مهما خاصة أن ذلك يتعدى آسيا، إلى المشاركة في تأمين التعاون اللازم والمطلوب في مواجهة التحديات العالمية. وفي جنوب شرق آسيا، تعمل أمريكا على تطوير التحالف الطويل الأمد مع تايلندا والفلبين، وعلى تعميق الشراكة مع سنغافورة وتطوير علاقة إستراتيجية مع إندونيسيا وماليزيا وفيتنام للتعامل مع قضايا بالغة الأهمية، مثل مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات وتنسيق المساعدات الإنسانية والإغاثية، مع تشجيع هذه الدول على الانخراط في المؤسسات المتعددة الأطراف والمهتمة بالأمن الإقليمي.
الصين
ترحب الولايات المتحدة بصين مزدهرة وناجحة وقوية تلعب دورا أكبر في النظام العالمي، كما ترحب بالمنافع الإيجابية التي يمكن أن تتأتى من تعاون أكبر وأعمق بين الطرفين، لكنّ انعدام الشفافية والشروع في عملية تطوير وتحديث الجيش الصيني والقرارات ذات الصلة تطرح تساؤلا مشروعا حول النوايا الصينية وطبيعة التحرك في آسيا أو ما هو أبعد من ذلك. وعلى هذا الأساس، فإن العلاقة مع الصين يجب أن تكون متعددة الأبعاد وقائمة على تعزيز الثقة وإزالة الشكوك باتجاه تعزيز المصالح المشتركة، كما على الطرفين أن يحافظا على خطوط التواصل بينهما لمناقشة القضايا الخلافية، ومن ثم تقليص إمكانية اندلاع الأزمات والنزاعات.
الهند
تعتبر العلاقة مع الهند واعدة جدا نظرا لمشاركتها نفس القيم الديمقراطية مع الولايات المتحدة، فضلا عن انفتاح النظام السياسي على أمريكا، خاصّة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تزايد قوتها الاقتصادية وتأثيرها الثقافي المتعاظم، ويفترض أن يكون لها دور أكبر وتأثير أوسع في مجال العلاقات الدولية.
أمّا قدرات الهند العسكرية، فهي في تطور دائم وسريع، حيث باتت تمتلك اليوم قدرات دفاعية مهمة، ونظام مراقبة بحرية طويل المدى ودوريات بحرية وجوية. أمّا الامتداد العالمي لقدراتها العسكرية فقد بدأ من خلال المشاركة في مكافحة القرصنة وعمليات حفظ السلام والمساعدات الإنسانية والمشاركة في أعمال الإغاثة.
باكستان
يتيح الموقع الجيوسياسي لباكستان لعب دور إقليمي مهم في تحقيق الاستقرار والأمن في منطقة آسيا، لهذا ترى الولايات المتحدة العلاقة مع إسلام أباد في غاية الأهمية. لكن عدم الاستقرار وندرة الموارد الطبيعية، والاتجار غير المشروع كلها من العناصر التي تهدد مستقبل الدولة. إن وجود باكستان آمنة ومستقرة يعد أمرا حيويا للمصلحة الأمريكية ولأمن أمريكا والمنطقة والعالم، ولهذه الأسباب فإن الولايات المتحدة ملتزمة بشراكة إستراتيجية طويلة المدى معها خاصة في مجال مكافحة التطرف وسنقوم بدعمها بموارد ضخمة لدعم الديمقراطية والتنمية.
دول الشرق الأوسط
تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط يبقى في غاية الأهمية بالنسبة للولايات المتّحدة ولضمان مصالحها، وفي الوقت الذي تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على تحقيق اتفاق سلام شامل بين إسرائيل وجيرانها، فإن علاقاتها الدفاعية مع إسرائيل ستتواصل، وكذلك هو الأمر بالنسبة للتعاون المشترك مع هذه الدولة سيبقى قائما.
أمّا التعاون الأمني مع مصر ولبنان والأردن والسعودية واليمن ودول الخليج فسيتواصل بما يعزز قدرات الشركاء على مكافحة الإرهاب ومواجهة تنظيم القاعدة وتفكيك شبكاته وعرقلة وصول الإمدادات المالية إليه، هذا إلى جانب حماية المنشآت الحساسة ومواجهة التحديات الإقليمية.
الملاحظات الاساسية في الوثيقة
أولا: تعكس الوثيقة كما معظم التقارير الرسمية الأمريكية الصادرة في عهد الرئيس باراك أوباما شعار “التغيير” الذي حمله معه في الانتخابات الرئاسية، لكن الأهم من ذلك هو أنّ هذه التقارير كما الوثيقة الحالية تتميز بنظرتها المختلفة للقضايا المحلية والدولية. فهي تأخذ في الاعتبار طبيعة وسرعة المتغيرات الرئيسية في النظام الدولي من جهة، والتحول الكبير والسريع في طبيعة التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة من جهة أخرى، مع ما يتطلبه ذلك من واقعية أكبر في فهم الوضع، بعيدا عن سياسة العصا التي سادت في عهد الرئيس بوش الابن، وأدت إلى تدهور إستراتيجي لموقع وقوة الولايات المتّحدة في العالم.
ثانيا: هناك تغيير كبير في الأولويات والمفاهيم كما هو واضح مقارنة بالإصدارات السابقة لهذه الوثيقة. ففي الوقت الذي كانت تركز الإصدارات السابقة منها على خوض “حرب تقليدية كبرى” ومن ثمّ “حرب كبرى ونزاعات صغرى” أو “حربين تقليديتين متوسطتين”، بدا واضحا من خلال هذه الوثيقة أنّ الحروب التقليدية الكبرى ليست هاجسا أمريكيا في ظل التفوق العسكري المطلق من جهة، وفي ظل كونها محدودة جداً ولا تمثل الواقع الحقيقي الذي ستواجهه القوات العسكرية في المستقبل من جهة أخرى.
ولهذا تم إعطاء الأولوية لصالح “النصر في الحروب والنزاعات المسلحة الحالية” غير التقليدي، أي في أفغانستان والعراق والاستعداد للتدخل في “عدة جبهات قوامها النزاعات المسلحة”، وذلك انطلاقا من الدروس المستخلصة، وتتمثل في:
- أنّ هذه الحروب طالت أكثر من اللازم من دون الخروج بنتيجة حاسمة ومرضية تخدم المصلحة الأمريكية.
- أن هذه الحروب استنزفت قدرات أمريكا بشكل سمح لخصومها بالصعود، وقلّص من قدرتها على المناورة في مواضع أخرى لا زالت أمريكا تغرق في وحلها.
- أن هذه الحروب أصبح حسمها أمرا أكثر من ضروري لتحقيق المصالح الأمريكية لأن الفشل فيها سيؤدي ضرورة إلى تقويض ما تبقى من سمعة أمريكا ومصداقيتها في العالم.
- تبيّن أن الحروب المستقبلية التي كان الجيش يستعد لها هي في الحقيقة الحرب التي يخوضها حاليا، وليس الحروب التقليدية الكبرى التي كان ينتظرها.
ثالثا: ركزت الوثيقة السابقة على “ضرورة المواءمة بين الحاجة إلى النصر في الحرب الجارية على الإرهاب، وضرورة الاستعداد لمواجهة التحديات والمخاطر المستقبلية”، علما أنّ الأولوية كانت تعطى للشق الثاني من دون اهتمام يذكر بالشق الأول.
وقد أدت هذه السياسة إلى ازدياد الضغوط على الجيش للاستعجال في عمليات التحوّل والتحديث التي يقوم بها، في الوقت الذي كان يخوض حروبا شرسة في العراق وأفغانستان مما أدى إلى تغيير الأجندة لصالح “إعطاء الأولوية القصوى للفوز في هذه الحروب مع عدم إهمال ضرورة الاستعداد لمواجهة التهديدات المستقبلية”؛ لأن الفوز في النزاعات الحالية من شأنه أن يحدد مدى قدرة أمريكا على التعامل مع التهديدات المستقبلية.
رابعا: على عكس وثيقة عام 2006 التي ركّزت بشكل جلي على الخطر الذي تمثّله حرب تقليدية واسعة، وخاصة مع الصين، فإن الوثيقة الحالية توزّع مصادر التهديد على عدّة مستويات، وخاصة غير التقليدي منها:
- ركزت الوثيقة على مواجهة ما بات يعرف بالفاعلين غير الحكوميين (Non-State Actors)، (من قبيل حماس وحزب الله) والحرب على الإرهاب والنزاعات غير التقليدية في أماكن مختلفة، نموذج أفغانستان والعراق.
- انتشار أسلحة الدمار الشامل (WMD) والأسلحة النووية (NW) وسعي العديد من الدول إلى امتلاك هذه الأسلحة ونشرها، ونموذج ذلك كوريا الشمالية وإيران.
- أمن الإنترنت (Cyberspace defense) والمخاطر الكبيرة التي تفرضها بعض الدول في هذا المجال، كما هو شأن الصين.
خامسا: هناك إشارة لافتة إلى موضوع مهم، طالما مرّت عليه التقارير الأمريكية مرورا عابرا، ألا وهو دعم الجنود وعائلاتهم وأسرهم. ويبدو أنّ هذا الموضوع جاء استجابة لحرب العراق، التي أحدثت خللا في نظام التطوع بالجيش مخافة أن يلقى الجنود حتفهم هناك، وأيضا استجابة لتداعيات مرحلة ما بعد الحرب؛ حيث يعاني هؤلاء الجنود نفسيا ومعنويا بشكل يدفع بهم إلى الانتحار أو ارتكابهم العنف وهو ما يسبب الضرر لذويهم وأسرهم ومحيطهم.
سادسا: هناك اعتراف أمريكي بعدم القدرة على مواجهة التحديات العالمية بشكل منفرد (وهو ما سبق أن أشارت إليه وثيقة “إستراتيجية الاستخبارات القومية الأمريكية” (NIS)، ومن الملاحظ في هذا الصدد تكرار كلمة “شراكة” و”شريك” حوالي 80 مرة، فضلا عن كلمة تحالف وحلفاء، حيث تمّ إعطاء الأولوية لشركاء وحلفاء أمريكا التقليديين في أوروبا وآسيا(اليابان)، وفي مناطق عدّة من العالم.
سابعا: تعتبر هذه الوثيقة أكثر واقعية من سابقاتها من ناحية تقليص الفجوة بين الموارد والواقع، وبين الموازنة المالية والمتطلبات العملية الضاغطة، خاصة مع ارتفاع تكاليف الحروب في العراق وأفغانستان التي أدت إلى فشل عمليات التحديث العسكري. هذا في ظل الوضع الاقتصادي السيئ الذي زادت من تدهوره الأزمة المالية العالمية، بشكل أدى إلى نقل مخصصات أكبر لصالح هذه الحروب بدلا من أن تذهب إلى التحديث، ولعل هذا ما يفسر إلغاء أو تأجيل أو تقليص الولايات المتحدة لعدد من البرامج العسكرية وفشل بعضها الآخر