Take a fresh look at your lifestyle.

الخشوع وترك الغفلة

 

الحمد لله والصلاة والسلام على خير المرسلين سيدنا محمد وعلى آله و أصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وبعد:

قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) الحديد16

ألم يأن: ألم يحن وقت،ألم يأت هذا الموعد ويقرب ؟

   إن هذه الأية موجهة للذين آمنوا ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ” ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية الا أربع سنين فجعل ينظر بعضنا الى بعض ويقول ما أحدثنا!”، هذه المعاتبة هي مذاكرة وتذكير والذكرى تنفع المؤمنين، قال ابن عباس:” ان الله استبطأ قلوب المؤمنين مع العلم انه لما نزلت هذه الآية كان المسلمون في بداية عهدهم بالاسلام وكانت الدولة الاسلامية لازالت في أوجها وعزتها ومطبقة لاحكام الله أفضل أنواع التطبيق، وقيل ان الصحابة كانوا في مكة في فقر وجدبِ  وعندما هاجروا الى المدينة وجدوا فيها النعيم ففتروا عما كانوا فيه فقست قلوبهم، وفي هذه الآية يطلب الله سبحانه وتعالى أن لا يكونوا كأهل الكتاب (بنو اسرائيل) اعطوا التوراة والإنجيل فطالت الازمان بهم . قال ابن مسعود:إن بني اسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .

 هذا هو حال المسلمين اليوم مشابه لحال بني اسرائيل كانت الدولة الاسلامية مطبقة للاسلام كاملا وعملت على رعاية شؤون رعاياها مسلمين وغير مسلمين واستمرت في هذا التطبيق ثلاثة عشر قرنا من الزمان لكن بعد تغلغل افكار الكفر وضعف الاسلام في نفوس المسلمين سقطت الدولة الحامية الراعية المطبقة لاحكام الله، ومرّ هذا الوقت الكبير على سقوطها وضياعها فقست قلوب المسلمين لا بل صدأت وأصبحنا بحاجة الى من يذكّرنا ويعيد لنا الاسلام في عقولنا وقلوبنا، يعيد لنا العقيدة والاحكام والدولة التي تطبق.

في  الآية الكريمة في بداية موضوعنا فأن الله سبحانه يطلب من المؤمنين الخشوع والابتعاد عن الغفلة حتى لا تقسى قلوبنا، فما هي الغفلة ؟ قال تعالى :” اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون “، فالغفلة هي غياب الشيء عن بال الانسان وعدم تذكره أو ترك الشيء إهمالا من غير نسيان ، والمتأمل لأحوال الناس في هذا الزمان يرى تطابق الآية مع واقع كثير منهم وذلك من خلال إعراضهم عن منهج الله وغفلتهم عن الآخرة وعن ما خلقوا من أجله وكأنهم لم يخلقوا للعبادة وإنما خلقوا للدنيا وشهواتها ، فيها يتخاصمون ويتقاتلون وبسببها يتهاونون، أو يتركوا كثيرا من أوامر ربهم، كل شيء في حياتهم له مكان، للرحلات مكان، للأكل والشرب مكان، للنوم مكان، للزيارات والمناسبات مكان، كل شيء له مكان إلا القرآن وأوامر الله ، تجد الواحد منهم عبقريّا بأمور الدنيا لكن عقله لا يقوده إلى أبسط أمر وهو طريق الهداية والاستقامة على دين الله الذي فيه سعادته في الدنيا والآخرة، وهذا والله غاية الحرمان ، قال تعالى:” ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).

لقد مات عند العديد من هؤلاء الشعور بالذنب ومات عندهم الشعور بالتقصير حتى ظنّوا أنهم على خير عظيم، بل ربما لم يرد بخاطرهم أنهم مقصرون في أمور دينهم ، فبمجرد قيامهم ببعض اصول الدين ومحافظتهم على الصلوات ظنوا في أنفسهم خيراً عظيماً، وأنهم بذلك حازوا الإسلام كله وأن الجنة تنتظرهم في نهاية المطاف، ونسي هؤلاء المساكين مئات الذنوب والمعاصي التي يرتكبونها والمخالفات التي يستهينون بها ولا يلقون لها بالاً ، وهي التي قد تكون سببا لهلاكهم وخسارتهم في الدنيا والآخرة ، فهم لا يدركون معنى حديث الرسول عليه السلام : “إياكم ومحقرات الذنوب فإنها إذا اجتمعت على العبد أهلكته”.  

 والسؤال الذي يطرحه الحريص على الإلتزام بأوامر الله : كيف نبتعد عن الغفلة حتى لا نكون من الغافلين؟

نقول: إن الله عزّ وجلّ قال في سورة الكهف(28) (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)  أي: إجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله سواء أكانوا فقراء أم أغنياء، أقوياء أم ضعفاء. “ولا تطع من أغفلنا قلبه” أي من شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا فكانت أعمالهم وأفعالهم تفريطاً وضياعاً فلا تكن مطيعا لهم ولا محبا لطريقتهم ولا تغبطهم بما هم فيه .

  ألم يأن لنا أن نكون عباد الله المخلصين الخاشعين قال تعالى: “قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) ، فالخشوع صفة المؤمنين الذين يحرصون دائما على الإلتزام بأوامر الله وتطبيقها والدعوة إليها .

        فهذا عروة بن الزبير ابن السيدة أسماء أخت السيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين ، أصاب رجله داء الأكلة (السرطان) فقيل له لا بد من قطع قدمك حتى لا ينتشر المرض ولهذا لا بد أن تشرب بعض الخمر حتى يغيب وعيك فقال : أيغيب قلبي ولساني عن ذكر الله ؟؟ والله لا أستعين بمعصية الله على طاعته ، فقالوا نسقيك المنقد (المخدر) فقال لا أحب أن يسلب جزء من أعضائي وأنا نائم ، فقالوا نأتي بالرجال تمسكك فقال أنا أعينكم على نفسي ، قالوا لا تطيق قال : دعوني أصلي فإذا وجدتموني لا أتحرك وقد سكنت جوارحي واستقرت فانتظروني حتى أسجد فإذا سجدت فما عدت في الدنيا فافعلوا بي ما تشاؤون، فجاء الطبيب وانتظر فلما سجد أتى بالمنشار فقطع قدم الرجل ولم يصرخ بل كان يقول رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا حتى أغشي عليه ولم يصرخ صرخة واحدة ، فلما أفاق أتوه بقدمه فنظر اليها وقال: أقسم بالله أني لم أمش بك الى حرام ويعلم الله كم وقفت عليك بالليل قائما لله ، فقال له أحد أصحابه يا عروة أبشر، جزء من جسدك سبقك الى الجنة ، فقال والله ما عزاني أحد بأفضل من هذا العزاء .

وهذا عليّ كرم الله وجهه كان إذا توضأ ارتجف فإذا سئل عن ذلك قال : الآن أحمل الأمانة التي عرضت على السماء والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها أنا.

وروي أن طلحة الانصاري رضي الله عنه كان يصلي في بستانه ذات يوم ورأى طيرا يخرج من بين الشجر فتعلقت عيناه بالطائر حتى نسي كم صلى فذهب إلى الحبيب (صلى الله عليه وسلم) يقول: يا رسول الله إني انشغلت بالطائر في البستان حتى نسيت كم صليت فإني أجعل هذا البستان صدقة في سبيل الله فضعه يا رسول الله حيث شئت لعل الله يغفر لي .

وروي عن حاتم الأصم رضي الله عنه أنه سئل عن صلاته فقال : إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي ثم أقوم الى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي والصراط تحت قدمي والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت ورائي ، وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف وأكبر تكبيرا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعا بتواضع، وأسجد سجودا بتخشع، وأقعد على الورك الأيسر وأفرش ظهر قدمها وأنصب القدم اليمنى على الإبهام واتبعها الإخلاص ثم لا أدري أقبلت مني أم لا .

وروي عن مسلم بن يسار أنه كان يصلي يوما في جامع البصرة فسقطت ناحية من المسجد فاجتمع الناس لذلك فلم يشعر به حتى انصرف من الصلاة .

        هذه نماذج من خشوع وورع الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين ، فأين نحن منهم الآن ؟! أين نحن في خشوعهم ! هل نحن مستعدون لأن نقوم بمثل افعالهم  حتى يرضى الله عنا ونستحق جنته،  ألم يأن لنا أن نسير على خطاهم في إلتزامهم وصبرهم وثباتهم وخشوعهم ؟ بلى والله قد آن يا رب قد آن. نسأل الله لنا الثبات في السير على خطاهم آمين آمين .

       ألم يأن الأوان لعباد الله أن يتركوا الدنيا ويبتعدوا عن شهواتها وملذاتها فإن الدنيا عدوة لله وعدوة لأولياء الله كما هي عدوة لأعداء الله أيضا، أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله ،وأما عداوتها لأولياء الله فإنها تزينت لهم بزينتها وعمتهم بزهرتها ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها وأما عداوتها لأعداء الله فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها فاقتنصتهم بشبكتها حتى وثقوا بها فخذلتهم ثم حرمتهم السعادة فهم على فراقها يتحسرون ومن مكائدها يستغيثون ولا يغاثون بل يقال لهم ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ )

 اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من غضبك والنار. اللهم اكتبنا مع الخاشعين ولا تكتبنا مع الغافلين ..

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،